شرح دعاء كميل (24)

img

﴿اللَّهُمَّ إنِّي أتَقرَّبُ إلَيكَ بِذِكرِكَ﴾

أي: بذكري إيّاك، اُضيف المصدر إلى المفعول.

[المراد من الذّكر]

المراد بالذّكر: إمّا معناه المصدري، يعني: بتذكّري إياك في كلّ حال أتقرّب إليك، أراد أنّ غاية تذكّري إيّاك هي التّقرب إليك، وكمال التّقرب إليه تعالى هو التخلّق بأخلاقه، كما ورد: «تخلّقوا بأخلاق الله»([1])، وورد: «تخلّقوا بأخلاق الروحانيّين»([2]).

وحقيقة الذّكر حضور المذكور لدى الذّاكر، وهو تعالى أجلّ ذاكر لأبهى مذكور، هو ذاته لذاته، كما في الدّعاء: «يا خَيرَ الذَّاكِرين»([3]). فذكره تعالى في مرتبة ذاته كلامه الذّاتي، وعلمه بذاته الذي هو حضور ذاته بذاته لذاته، بمعنى: عدم انفكاك ذاته عن ذاته تعالى. وفي مرتبة فيضه المقدّس وفعله الأقدس ذكره أمره الإيجادي، وكلمة «كن» الوجوديّة. ولذا قال الشاعر:

فلمّا أضاء الليل أصبحت عارفاً

بأنّك مذكور وذكر وذاكر([4])

وإمّا المراد بالذكر: وجهه تعالى، فانّ البرهان الصحيح يدلّنا على التثليث: الذاكر، والذكر، والمذكور. فالذاكر: هو الله تعالى، والذكر: الوجود المنبسط، والمذكور: مخلوقه ومصنوعه. وقد مرّ أنّ ذلك الوجود وجهه تعالى.

فحينئذٍ مراد السّائل أنّه يقول: أتقرّب إلى ذاتك الحكيم القديم بوجهك الكريم.

وإمّا المراد بالذكر: وجود السّائل؛ إذ قد عرفت أنّ الوجودات بأسرها، كما أنّها إشراق الله تعالى، كذلك كلماته وأذكاره، كما قال الله تعالى: ﴿كَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ([5])، و قال ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ([6]).

وخير الأذكار: وهو أن يصير وجود الذاكر عين ذكره تعالى، كما قيل:

اگر مؤمن بدانستی که بت چيست
اگر کافر زبت آگاه گشتی

يقين کردی که دين در بت پرستی است
کجا در دين خود گمراه گشتی([7])

 یعنی: لو علم المؤمنون الذين دخلوا في أوائل درجات الإيمان، وقالوا: «لا إله إلّا الله» تقليداً ولساناً لا برهاناً وعياناً، أنّ وجودات الأصنام كلّها من الله وإشراقاته، وهو تعالى أحاط بكلّ شيء علماً([8]) وقدرةً، وفي الحقيقة معطى الكمالات ليس إلّا هو، لأيقَنوا ـ هؤلاء المؤمنون ـ بأن عبادة الأصنام بذلك الاعتبار عبادة الله تعالى، وفي الحقيقة كذلك، ولكن عبدة الأصنام لم يكونوا مستشعرين بهذا الأمر، بل يعبدون نفس الأصنام بأنّها آلهتهم، أو أدلّاء وشفعاؤهم عند إلههم، وذلك كفر وإلحاد وملعنة.

فحينئذٍ مراده: إنّي أتقرّب إليك بسبب وجودي الذي هو من صقعك، وكونك موجداً إيّاي، وآخذاً بناصيتي، تجرّها إليك.

وإمّا المراد بالذكر: هو القران المجيد والفرقان الحميد، كما سمّاه الله تعالى به، قال: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا([9])، وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ([10]).

فحينئذٍ مراده: أتقرّب إليك بكتابك، يعني: بمواظبتي قراءته، وممارستي التفكّر في محكماته ومتشابهاته، وناسخه ومنسوخه، وتأويله وتنزيله، ومجمله ومفصّله.

والقرآن ـ من الفاتحة إلى الخاتمة ـ وجوده الوجود اللفظي حين القراءة، والوجود الكتبيّ حين عدمها لجميع الموجودات، الآفاقية والأنفسيّة؛ إذ قُرّر في محلّه أنّ لكلّ شيء وجودات أربعك العينيّة والذهنيّة والكتبيّة واللفظيّة. والعوالم كلّها متطابقة، فكلّ ما في عالم من العوالم فهو في عالم أعلى منه بنحو الأكمليّة والأتميّة ممّا في العالم الأدنى، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾([11]).

فالمراد بالكتاب المبين وإن كان هو العقل الأوّل والممكن الأشرف، إلّا أنّ القرآن رقيقته ووجوده الكتبى كما قلنا، فكلّ ما في اُمّ الكتاب بنحو اللفّ والبساطة فهو في الكتاب التدويني بنحو الكتابة والعبارة. والتفصيل يستدعي محلّاً آخر ونمطاً آخر غير ما سمعت.

وإمّا المراد بالذّكر: أهل البيت^؛ لأنّهم أهل الذكر وحاملوا القرآن كما هو حقّه، كما روي عن أبي جعفر× في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ([12])، قال: «نحن والله أهل الذّكر». فقيل: أنتم المسئولون؟ قال: «نعم». قيل: وعليكم أن تجيبونا؟ قال×: «ذاك إلينا، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا تركنا»([13]). فهم^ بشراشر وجود هم ذكر الله تعالى وفيضه.

وحينئذٍ مراده: أتقرّب إليك بأهل ذكرك، يعني: بمحبّتهم وموالاتهم^، فحذف المضاف واُقيم المضاف إليه مقامه، ثم إنّ حرف الباء في قوله: «بذكرك» للسبّبيّة.

فبالجملة: ذكره تعالى في جميع الأحوال حسن، و العقل الهيولاني في أوّل الأمر وابتداء الحال يستدعي الصّورة، كالهيولى الاُولى التي تستدعي الصّورة الجسميّة. فصوّروا العقل بذكر ذاته تعالى وذكر أسمائه وصفاته، ولا ترتسموه بصور داثرات مخلوقاته من الأباطيل الزّائلة الفانية، والتُرَّهات([14]) العادمة الغير الباقية.

الله في كـــــلّ شؤون اذكـــرا                     فـــإنّ ذكـــر الله كـــــان أكبراً

ومنه جاء حثّ عليه في الخـلاء                     وحايــــض وقاطئ  وما خلا([15])

 ______________________

([1]) انظر: روضة المتقين 1: 312. بحار الأنوار 58: 129.

([2]) انظر: قوت القلوب في معاملة المحبوب 1: 249.

([3]) المصباح (للكفعمي): 247.

([4]) جامع الأسرار ومنبع الأنوار: 132.

([5]) آل عمران: 45.

([6]) فاطر: 10.

([7]) گلشن راز: 88.

([8]) ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، الطلاق: 12.

([9]) ص: 8.

([10]) الحجر: 9.

([11]) الأنعام: 59.

([12]) النحل: 43.

([13]) تفسير القمي 2: 68. البرهان في تفسير القرآن 3: 426/ 6040. بحار الأنوار 23: 174 / 3.

([14]) قال ابن منظور: «تره: التُّرُّهات والتُّرَّهات: الأَباطيل، واحدتها تُرهة، وهي التُّرَّه ـ بضم التاء وفتح الراء المشدّدة ـ وهي في الأَصل: الطُّرُق الصِّغار المُتَشَعِّبة عن الطريق الأَعظم، والجمع: التَّرَارِه». لسان العرب 13: 480، مادة «تره».

([15]) انظر: شرح نبراس الهدى (حاج ملا هادي سبزواري): 83.

الكاتب المولى عبد الأعلى السبزواري

المولى عبد الأعلى السبزواري

مواضيع متعلقة