شرح دعاء كميل (20)

img

﴿اللّهمُ اغفِر ليَ الذُّنوبَ الَّتي تَهتِكُ العِصَمَ﴾

الغفران والمغفرة: السّتر، ومنه قولهم: جاؤوا الجمّ الغفير، أي الجمع السّتير، يعني: لكثرتهم كأنّهم ستروا وجه الأرض من جوانبه. وهو تعالى غفور وغفّار، أي ستّار للجرائم والخطيئات الشرعيّة، والنقائص الإمكانيّة، بذيل رحمته الرحمانيّة ورحمته الرحيميّة.

والذّنوب: جمع الذّنب، وهو الإثم والجريمة.

[كلام المحقّق السبزواري]

والذّنب والخطيئة ـ كما قال صدر المتألّهين +([1])، نقلاً عن كلمات الفقهاء )رضوان الله عليهم( ـ تنقسم إلى ما هو ذنب وخطيئة بالنّسبة إلى أصل الشّرع، كشرب الخمر والميسر، وغيرهما من المنهيّات الشرعيّة، وإلى ما يصير ذنباً بالنيّة والعزم، كالتزيين للزّناء، والأكل للتقوّي على المعصية، وإلى ذنب الجوارح وذنب القلوب، وكلّ منهما إلى الصغيرة والكبيرة.

[الأقوال في تعيين الكبيرة ]

ثم قال: «واختلف آراء الأكابر في الكبائر على أقوال شتى، وليس للقلب اطمئنان على أدلّتهم، ولعلّ في اختفائها حكمة، وهي الاجتناب عن جميع المعاصي مخافة من الوقوع فيها.

فقال قوم: هي كلّ ذنب توعّد الله تعالى عليه في الكتاب المجيد بالعذاب والوعيد([2]).

وقال بعضهم: هي كلّ ذنب رتّب عليه الشارع حدّاً، أو نصّ فيه بالعقاب([3]).

وقالت فرقة: إنّها كلّ خطيئة تؤذن بأنّ فاعلها قليل الاعتناء في دين الله تعالى([4]).

وقال جماعة: إنّها كلّ ذنب ثبت حرمته بالبرهان([5]).

وقالت طائفة: هي كلّ ذنب أوعد الله تعالى فاعلها في القرآن الحكيم بالعذاب الأليم، أو أوعد حججه تعالى في سننهم السديدة بالعقوبة الشّديدة([6]).

وعن عبدالله بن مسعود أنّه قال: اقرؤوا من أوّل سورة النّساء إلى قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ([7])، فكلّ ما نهى عنه في هذه السّورة إلى هذه الآية فهو كبيرة([8]).

وقالت طائفة: الذنوب كلّها كبائر؛ لاشتراكها في مخالفة الأمر والنهي، لكن قد يطلق الصغيرة والكبيرة على الذنب بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته، كما أنّ القُبلة بالنسبة إلى الزناء صغيرة، وبالنسبة إلى النظر بالشهوة كبيرة([9]).

قال الشيخ الجليل أمين الإسلام أبو علي الطّبرسي طاب ثراه في مجمع البيان ـ بعد نقل هذا القول ـ : «وإلى هذا ذهب أصحابنا (رضي الله عنهم)، فإنّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرة، لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة، وإنّما تكون صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر، ويستحقّ العقاب عليه أكثر»([10])»([11]) انتهى كلامه+.

وفي مجمع البحرين قال: «الذنوب تتنوّع إلى ماليّة وبدنيّة، وإلى قوليّة وفعليّة، والفعليّة تختلف باختلاف الآلات التي تفعل بها، إلى غير ذلك.

فمنها: ما يغيّر النّعم، ومنها: ما يُنزل النّقم، ومنها: ما يقطع الرّجاء، ومنها: ما يديل الأعداء، ومنها: ما يردّ الدعاء، ومنها: ما يستحقّ بها نزول البلاء، ومنها: ما يحبس غيث السماء، ومنها: ما يكشف الغطاء، ومنها: ما يعجّل الفناء، ومنها: ما يظلم الهواء، ومنها: ما يورث النّدم، ومنها: ما يهتك العصم، ومنها: ما يدفع القسم، إلى غير ذلك».

ثمّ قال: «واعلم أنّ جميع الذّنوب منحصرة في أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص، والحسد، والشّهوة، والغضب. هكذا روي عنهم ^»([12]) انتهى.

أقول: لعلّ مراده بالانحصار في الأوجه الأربع أنّ أسباب الذنب منحصرة في هذه الأوجه، بل منحصرة في الشهوة والغضب فقط؛ لأنّ الحرص والحسد من صفات الشهوة والغضب، وخواصّهما: الهتك والمزق والخرق.

[معنى العصمة]

و«العِصَم»: جمع «عصمة»، كـ«نعم»: جمع «نعمة»، وهي لغةً: المنع([13]). وفي اصطلاح الفقهاء([14]) والحكماء([15]): كيفيّة روحانية يمتنع بها صدور الخطأ عن صاحبها؛ لعلمه بمثالب المعاصي ومناقب الطّاعات.

فإذا بلغ الكلام إلى هذا المقام، فالأنسب أن نفصّل العصمة بأنّها ما هي؟ وفي مَن هي؟ وفي كم هي؟ ومتى هي؟ وعمّ هي؟ ولِمَ هي؟

أمّا الأوّل: فقد ذكرتها.

وأمّا الثاني: فهي في الأنبياء، والأئمة الإثنى عشر، وفي الملائكة.

والظاهريّون ـ الذين قالوا: إنّ الملائكة أجسام لطيفة هوائية، تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة، مسكنها السموات، وفيهم داعية الشهوة والغضب([16]) ـ يجوّزون عليهم المعصية. واختلفوا في عصمتهم.

وعمدة ما أوقعهم في الشبهة والاختلاف في عصمة الملائكة أمران:

أحدهما: الاستثناء في قوله تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ([17]).

والثّاني: حكاية هاروت وماروت، فإنّهما كانا ملكين ففسقا عن أمر ربّهما.

واُجيب عن الأوّل: أنّه بني على التّغليب، أو يكون المستثنى فيه منقطعاً.

وعن الثاني: بأنّها مؤوّلة، وقد أوّلها العلّامة الكاشي في تفسير الصّافي([18])، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ([19])، بعد ذكر أحاديث كثيرة مختلفة الورود في قصّتهما عن الأئمة^. والآيات الدالّة على عصمتهم في القرآن الحكيم كثيرة جدّاً.

وأمّا الثالث: فجميع الفقهاء والحكماء والمتكلّمين مطبّقون على وجوب عصمة الأنبياء في اعتقاداتهم، وقائلون بأنّهم معصومون عن الكفر، إلّا الخوارج ـ لعنهم الله ـ فإنّهم يقولون: من صدر عنه الخطيئة فهو كافر، ويجوّزون صدور الذّنب عن النبيين^([20]).

وأمّا الرّابع: قال كثير من المعتزلة، وجمّ غفير من الأشاعرة([21]): إنّ العصمة مخصومة بزمان البعثة في الأنبياء، ولا يجب قبلها.

وأمّا الخامس ـ يعني العصمة عن الصغيرة أو الكبيرة، عمدهما أو سهوهما ـ ففيه أقوال ومذاهب([22]):

فالحشويّة قد جوّزوا تعمّد الصغيرة والكبيرة على الأنبياء.

وكثير من المعتزلة جوّز تعمّد الصغيرة بشرط عدم خساستها، كسرقة اللقمة وتطفيف الكيل، وأمثال ذلك.

والحنابلة قالوا: جاز صدور الذّنب عن الأنبياء على سبيل الخطأ في التّأويل.

والأشاعرة قالوا بصدور الصّغيرة عنهم سهواً لا عمداً. وغيرها من أباطيلهم التي ما لاقت بالذّكر.

فالمذهب الذي هو أحقّ وأليق بالذكر ما ذهب إليه الإماميّة، من وجوب العصمة في الأنبياء والأوصياء والملائكة مطلقاً، وفي تمام عمرهم، سواء كان في الاعتقاديّات، أو في التبليغ، أو في الفتوى، أو في الأحوال والأفعال، صغائر كانت الذنوب أم كبائر، ولا يجوز السهو والنسيان عليهم^.

وأمّا السادس ـ أي الدّليل عليها ـ : فكما قالوا من أنّ صحة الوجوب على الله كالوجوب من الله، وقد تقرّر عند المحقّقين من أهل الكلام([23]) أن اللّطف على الله واجب، ومن هنا وجب على الله بعثُ النّبي ونصب الإمام. وقالوا: لا شكّ أنّ العصمة على الوجه المذكور أدخل وأمدّ في اللّطف، ولهذا يجب تنزّههم عن العيوب والنقائص الخُلقيّة كالخَلقيّة، فلا يجوز على الحكيم الإخلال به.

وعن علي بن الحسين’، قال: «الإمام منّا لا يكون إلّا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخِلقة فتعرفَ». قيل: فما معنى المعصوم؟ قال×: «المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، فلا يفترقان إلى يوم القيامة»([24]).

ثمّ المراد بالعصمة في قول السّائل معناها اللّغوي، وهو زجر العقل ومنعه النّفس من الوقوع في المعصية.

و«الذّنوب التي تهتك العصم» ـ على ما روي عن الصّادق×([25]) ـ هي: شرب الخمر واللّعب والقمار، وفعل ما يضحك النّاس من المزاح واللّهو، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الرّيب. فليجتنب عن جميعها؛ لئلّا يهتك العصمة.

 _________________________

([1]) شرح الأسماء الحسنى 1: 33، باختلاف.

([2]) النهاية: 325.  تحرير الأحكام 5: 247. الدروس الشرعية  2: 125. مدارك الأحكام 4: 69. كفاية الأحكام 2: 745.

([3]) حكي هذا القول عن سعيد بن جبير ومجاهد في تفسير مجمع البيان 3: 70، وبه قال في تفسير البيضاوي 2: 178، وتفسير أبي السعود 2: 171.

([4]) حكي عن  إمام الحرمين وغيره في روضة الطالبين 8: 199 ـ 200. تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) 1: 499. فتح الباري 10: 334.

([5]) حكي هذا القول في تفسير البيضاوي 2: 178، وتفسير أبي السعود 2: 171.

([6]) حكي عن الرافعي في جواهر العقود 2: 349.

([7]) النساء: 31.

([8]) تفسير التستري: 53. تفسير القرآن العظيم (ابن أبي حاتم) 3: 933/5214. الكشف والبيان (تفسير الثعلبي) 3: 295. عمدة القاري 14: 62.

([9]) انظر: الحبل المتين: 82، حكاه عن المفيد، وابن براج، وابن إدريس، وأبي الصلاح )نور الله مراقدهم(.

([10]) تفسير مجمع البيان 3: 70، وفيه: «المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح…».

([11]) شرح الأسماء الحسنى 1: 33، باختلاف يسير.

([12]) مجمع البحرين 2: 61.

([13]) لسان العرب 12: 403، مادة «عصم».

([14]) لم نعثر عليه.

([15]) شرح الأسماء الحسنى 2: 36.

([16]) انظر: بحار الأنوار 56: 202 ـ 203.

([17]) البقرة: 34.

([18]) التفسير الصافي 1: 171 ـ 177.

([19]) البقرة: 102.

([20]) حكي عنهم في بحار الأنوار 11: 89، ذيل الحديث 16.

([21]) بحار الأنوار 11: 91، وفيه: « وهو قول أكثر الأشاعرة ومنهم الفخرالرازي، وبه قال أبو هذيل وأبو علي الجبائي من المعتزلة». النور المبين في قصص الأنبياء (للسيد نعمة الله الجزائري): 21، وفيه: «وهو قول أكثر الأشاعرة ومنهم الفخر الرازي». شرح الأسماء الحسنى 2: 37، وفيه: «فعند أكثر الأشاعرة وجم غفير من المعتزلة العصمة …».

([22]) حكي عنهم في كشف المراد: 471. بحار الأنوار 11: 90. عصمة الأنبياء (فخر الدين الرازي): 8.

([23]) تقريب المعارف (أبو الصلاح): 150. المسلك في أصول الدين (المحقق الحلي): 306. الألفين (العلامة الحلّي): 60.

([24]) معاني الأخبار: 132/1. بحار الأنوار 25: 194/ 5، وفيهما: «فيعرفَ بها ولذلك لا يكون إلّا منصوصاً …».

([25]) معاني الأخبار: 270/ 2. وسائل الشيعة 16: 282، أبواب الأمر والنهي، باب 41، ح 21556. فيهما: «عن أبي خالد الكابلي، قال : سمعت زين العابدين علي بن الحسين’».

الكاتب المولى عبد الأعلى السبزواري

المولى عبد الأعلى السبزواري

مواضيع متعلقة