شرح دعاء كميل (19)

img

﴿يا قُدّوسُ

«سُبّوحٌ قُدّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ وَالرُّوحِ»([1])

 «القدّوس»  ـ بضمّ القاف و تشديد الدّال مع ضمّتها ـ وكذا «السبّوح»، بمعنى: الطاهر، المنزَّه عن العيوب والنقائص. وقد يفتح القاف في «القدّوس» والسّين في «السبّوح».

فهو تعالى قدّوس، أي منزّه عن جميع النقيصة والعيب، حتى عن الماهيّة؛ لأنّه تعالى ماهيّته إنّيته، وهي تأكّد الوجود والوجوب وشدّة النورية، كما قرّر في محلّه، ومجرّد عن جميع المواد، سواء كانت المادة بمعنى المحلّ المستغني فيها، كما في المادّة بمعنى الموضوع بالنّسبة إلى العرض، أو كانت المادّة بمعنى المتعلّق، كما في البدن بالنسبة إلى النفس، أو كانت المادّة العقليّة، كالجنس إذا أخذ بشرط «لا» في البسائط الخارجيّة، كالأعراض أو كالمادّة التبعيّة؛ لأن هذه معنى المادّة العقليّة في الأعراض، وكالماهيّة بالنسبة إلى الوجود، فإنّ الماهيّة مادّة عقليّة للوجود، فعلت ساحة كبريائه تعالى عن أن يصل إليها أغبرة النّقائص والحاجات والماهيّات والموادّ علوّاً كبيراً، كما قيل:

أنت المنزّه عن نقصٍ وعن شينٍ

 

 

حاشاي حاشاي عن إثبات إثنين([2])

 

 ﴿يا أَوَّلَ الأَوَّلينَ وَيَا آخِرَ الآخِرينَ﴾

هاتان الأوليّة والآخريّة ليستا زمانيّتين كما يتبادر إلى بعض الأوهام؛ لأنّه تعالى ليس في حدّ من حدود الزّمان حتى يحيط به، وكيف يسع للزّمان الذي هو من مبدئه إلى منتهاه كالآن الواحد بالنّسبة إلى مقرّبي حضرته تعالى، فكيف بجنابه أن يظهر الزمان في سطوع نوره تعالى؟

بل هذه الأوّليّة والآخريّة سرمديّتان وذاتيّتان؛ إذ وعاء وجوده تعالى هو السّرمد، كما أنّ وعاء وجودات العقول والنّفوس المفارقة هو الدّهر، ووعاء الطّبائع السيّالة الممتدّة وعوارضها هو الزّمان. فهو تعالى «أوّل الأوّلين»؛ إذ منه بدء وجود كلّ أوّل في السّلسلة النزوليّة، و«آخر الآخرين»؛ إذ إليه ينتهي كلّ آخر في السّلسلة الصعوديّة، وليس قبله ولا بعده تعالى شيء حتّى يكون هو أوّل الأوّلين وآخر الآخرين.

وفي ابتداء دعاء الاعتصام، قال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ‏ الْأَوَّلُ‏ فَلَيْسَ‏ قَبْلَكَ‏ شَيْ‏ءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْ‏ءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْ‏ءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْ‏ء»([4]).

وتحقيق المقام: أنّه تعالى لمّا كان في الإجادة والإفاضة على أهل مملكته هو المبدأ الأوّل والموجد الأعزّ الأجلّ، ثم فاض منه الجود إلى العقل الأوّل، ومنه إلى العقل الثّاني، ثمّ منه إلى الثالث حتّى العاشر، ثمّ منه إلى أهل هذا العالم، فهؤلاء العقول هم الأوّلون بعد الحقّ الأوّل تعالى، ووسائط جوده بالنسبة إلينا في [النّزول]([5])، فهو «أوّل الأولين»، وكذلك في الصعود: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ([6]) من البشريّة إلى الملكيّة، ومنها إلى العقل الفعّال، ثم إلى العقول الاُخر، حتّى العقل الأوّل، ومنه إلى الفناء في الحضرة الواحديّة، فهو تعالى «آخر الآخرين».

أو بطريق آخر نقول: ثم فاض منه تعالى الجود إلى العقل، ومنه إلى النفس، ومنها إلى المثال، ومنه إلى الأفلاك، ومنها إلى عالمنا العناصر الهيولاني.

أو نقول: ثم فاض إلى الجبروت، ثم إلى الملكوت بقسميها، ثم إلى الناسوت وتلك العوالم متطابقة.

وكذا نقول في العود إلى الله تعالى، كما قال المولوي& في المثنوي:

از جمادي مردم و نامى شدم
مردم از حيوان و پس آدم شدم
بار ديگر بايدم مرد از بشر
بار ديگر از ملک قربان شوم
بار ديگر بايدم جستن زجو
پس عدم گردم، عدم چون ارغنون

وز نما مردم زحيوان سر زدم
از چه ترسم كي زمردن كم شدم
تا بر آرم از ملائك بال وپر
آنچه اَندر وهم نايد، آن شوم
کل شيء هالک إلا وجه هو
گويدم کإنّا إليه راجعون([7])

والّذي لا يبلغ الأوهام دركه هو العقل، ولذا قال: «آنچه اَندر وهم نايد آن شوم». والبيت الآخر إشارة إلى الفناء التّام في الحضرة الواحدية، وهو قرّة عين  العارفين.

أو تقول: هو تعالى أول السّلسلة الطوليّة النزوليّة، ومبدأ المبادئ، «كان الله ولم يكن معه شيء»([8])، وآخر السّلسلة الطوليّة الصعوديّة، وغاية الغايات ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ([9]) ﴿إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ([10]). هذا ما عندي لأوّليته تعالى وآخريّته طولاً.

وأما عرضاً، فنقول: هو تعالى أوّل الأنبياء والمرسلين، وما خلق من نوع الآدميّين في الأدوار والأكوار؛ إذ العلّة واجدة لكمال المعلول، وهؤلاء معاليل الله تعالى، فهو أوّل الأوّلين وآخر الآخرين؛ لأنّ إليه تعالى تنتهي سلسلة الأنبياء والأولياء والكمّلين عليهم سلام الله أجمعين.

ثم لما سأل السّائل عن الله تعالى، ووصف طائفة من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، استشعر بجماله وجلاله، وتحيّر في عظمته تعالى وكماله، فبهر في عقله والتفت إلى ذنوبه وآثامه، فارتعش من خوفه تعالى فرائصه وعظامه، فرفع يديه ملحّاً وفزعاً إليه فقال مستغفراً عنه تعالى: 

﴿اللّهمُ اغفِر ليَ الذُّنوبَ الَّتي تَهتِكُ العِصَمَ﴾

يتبع…

_________________________

([1]) انظر: مصباح المتهجد: 127/ 208 و 199/ 284.

([2]) من أشعار حسين بن منصور الحلاج الصوفي. ديوان الحلاج: 160، وفيه:

«أ أنت أم أنا هذا في إلهين         حاشاك حاشاك من إثبات إثنين»

 ديوان أميرالمؤمنين علي×: 45، وفيه:

«أ أنت أم أنا هذا العين في العين    حاشاي حاشاي عن إثبات إثنين»

([4]) الكافي 2: 504، باب التحميد والتمجيد، ح 6. مصباح المتجهد: 543.

([5]) في المخطوط: «الزوال».

([6]) فاطر: 10.

([7]) مثنوي معنوي: 455، وفيه باختلاف.

([8]) الكافي 1: 107، باب صفات الذات، ح 2، وفيه: «كان الله عز وجل ولا شئ

غيره». التوحيد (للصدوق): 67، باب التوحيد ونفي التشبيه، ح 20، وفيه: «كان الله ولا شئ معه».

([9]) الشورى: 53.

([10]) البقرة: 156.

الكاتب المولى عبد الأعلى السبزواري

المولى عبد الأعلى السبزواري

مواضيع متعلقة