شرح دعاء الصباح 24

img

﴿إلهي إنْ لَمْ تَبتَدِئْني الرَّحمَةُ مِنكَ بِحُسْنِ التَّوفيقِ، فَمَنِ السّالِكُ بي إلَيكَ في واضِحِ الطَّريقِ؟!﴾

«التّوفيق»: توجيهُ الأسباب نحو المطلوب الخير. لمّا صار المقام مقام الأُنس بعد ذكر الفقرات السّابقة، سيّما ما دلّ على الفواضل بالنّسبة إلى الدّاعي كالإرقاد والإيقاظ والكفّ المذكورات، أضاف الّداعي إلهه إلى نفسه، وهذه الإضافة تشريفيّة، وفيها من الابتهاج والالتذاذ ما لا يخفى على المحبّين. وبمثل هذه الإضافة أسكر إبليس اللّعين حيث قال تعالى: ﴿وَإنَّ عَلَيكَ لَعنَتي إلى يَومِ الدّينِ([1]).

وإسناد الابتداء إلى الرّحمة إسنادٌ مجازيّ من باب الإسناد إلى المفعول له، وهو حصولي. وكلمة «مَن» استفهاميّة مبتدأ، خبره «السّالك». و«الباء» بعده للتّعدية. و«واضح الطريق» من إضافة الصّفة إلى الموصوف. والمراد «بالرّحمة» رحمته الّتي وسعت كلّ شيء، ونور وجهه الّذي أضاء به كلّ شَيء وفَيء، وقد مرّ بعض نعوته.

والمقصود: أنّه تعالى وليّ التّوفيق، ومسبّب الأسباب، ولولا توفيقه وتسبيبه لم يمكنّا معرفتُه، والسُّلوكُ نحوه؛ فله الحمد على توفيق الحمد، وهو المُبتدئ بالنّعم قبل استحقاقها([2]).

 وفيه إشارةٌ إلى أنّ ما منه([3]) في هذا السُّلوك عين ما إليه([4])، وأنّ فاتحة كتاب الكون عين الخاتمة: «أوّل الفكر آخر العمل»([5]). وقد ثبت في مباحث الغايات الّتي هي أشرف أجزاء الحكمة أنّ العلّة الغائيّة في كلّ فعل تعود إلى الفاعل بالآخرة:

أمّا في الفعل الكلّي لفاعل الفواعل؛ فلأنّه لا غرض آخر يعلّل فعله سوى ذاته، ولا يجوز الاستكمال على ذاته.

وأمّا في فعل غيره؛ فلأنّ ذاته ناقصة فاعلاً، وذاته كاملة غاية، والنّاقص من شيء وكامله ليسا مباينين، وإلّا لم يكن الناقص ناقصاً من ذلك الكامل، ولا الكامل كاملاً لذلك النّاقص. وأيضاً الغاية مؤخّرة عيناً، مقدّمةٌ ذهناً، وهي علّة فاعليّة الفاعل، والأشياء تحصل بأنفسها في الذّهن، فالريّان يطلب الريّان، والشبعان يبتغي الشبعان، وهكذا؛ إذ ما لم يقم صُورة الريّ مثلاً بنفس طالب الريّ، ولم يحط به خُبراً لم يمكنه الطّلب، وما لم يكن للماء نحو وجُود([6]) ووجدان ونشأة بروز في الأذهان، لم يمكن طلب الماء. قال ابن الفارض:

وَلَو لا شَذاها ما اهتَديتُ لِحانها

 

وَلولا سَناها ما تَصَوّرَهَا الوهمُ([7])

وبالجملة، من الأسباب الموجّهة نحو المطلوب الّذي هو خيرٌ محض: معروفيّتُه، ومعروفيّة الشيء هي هو. وكيف لا يكون من الأسباب، بل رأسها وسنامها؟ ومن المعلومات أنّ طلب المجهُول المطلق محال، ومطلوبيّة الشيء على حسب معروفيّة ذاته، وكمالات ذاته، وبقدر الالتذاذ به.

قال عليّ× في بعض خطبه الشريفة: «أوَّلُ الدِّينِ مَعرفَةُ الله، وَكَمالُ المَعرفَةِ التَّصديق بِهِ، وَكَمالُ التّصدِيقِ بِهِ تَوحِيدُهُ، وَكَمال التَّوحِيدِ الاخِلاصُ لَهُ، وَكَمالُ الإخِلاصِ لَهُ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ؛ لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أنّها غَيرُ الموصُوفِ، وَشَهادَةِ كُلِّ مَوصَوفِ أنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ. فَمَن وَصَفَهُ سَبحانَهُ فَقَد قَرَنَهُ، وَمَن قَرَنَهُ فَقَد ثَنّاهُ، وَمَن ثَنّاهُ، فَقَد جَزّاهُ، وَمَن جَزّاهُ، فَقَد جَهِلَهُ، وَمَنْ أشارَ إلَيهِ فَقَد حَدَّهُ، وَمَن حَدَّهُ فَقَد عَدَّهُ. وَمَن قالَ: فيمَ؟ فَقَد ضَمَّنَةُ. وَمَن قالَ: عَلامَ؟ فَقَد أخْلى مِنهُ»([8]). صدق وليّ الله×.

 ____________________

([1]) ص: 78.

([2]) في الدّعاء: «يا مبتدئاً بالنّعم قبل استحقاقها»؛ لأنّ استحقاق الموادّ وقابليّتها فرع الوجود الذي أجلّ نعمة، وهو سيبه وعطيّته، ولولاه لم يظهر مادّة ولا قابليّة. وأمّا قولهم: «العطيّات بقدر القابليّات» مقتنصاً من قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾، ففي ماء حياة النّفوس السّائل بحسب قوابل الأبدان، وفي الكمالات الثانية الفائضة على الموضوعات بقدرها. والوجود بحسب قابليّات الأعيان الثابتة في نشآت العلم اللا مجعولة بلا مجعوليّة الأسماء والصّفات والماهيات الإمكانيّة مطلقاً غير مجعولة لاعتباريّتها. منه.

([3]) أي ما هو منه.

([4]) أي ما هو إليه.

([5]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 198/المسألة: 14/هـ: 2، رسائل المحقّق الكركي: 160، التفسير الكبير 9: 298.

([6]) إذ لا يمكن أن يقال للماء في النفس: شيئيّة ماهيّة فقط؛ فإنّ تقرّر الماهيّة منفكّةً عن كافّة الوجودات باطلٌ، وصورة الريّ في الحقيقية ريّ، والماء كذلك؛ سواء كانت صورة خياليّة أو عقلية، بل الصّورة العقليّة للشيء أحقّ بإطلاق اسمه من الماديّة؛ لأنّ الصورة الماديّة محفوفة بالمادّة، ممنوّة بأجانب وغرائب من حقيقته، بخلاف العقليّة؛ لصرافتها. وهي والخياليّةُ نوريّةٌ علميةٌ باقيةٌ بخلاف الماديّة الطبيعيّة، فإنّها ظلمانيّة معلومة بالعرض، داثرة؛ إذ الطّبع مطلقاً متجدّدة بالذات. منه سلمه الله تعالى.

([7]) ديوان ابن فارض: 179 (حرف الميم). شرح الأسماء الحسنى 2: 42.

([8]) نهج البلاغة 1: 15. الاحتجاج 1: 296.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة