حول الإنسان (13)

img

فسلام الله عليك يا أمير المؤمنين وعلى من قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»([1]):

فأنت باب تعالى قدر حارسه

بغير راحة روح القدس ما قرعا([2])

 

وقال الأزري &

إنما المصطفى مدينة علم

وهو الباب من أتاه أتاها

(المؤلف)

 وقد أخبر الله سبحانه عن هذه المادة المنوية أنها كما قال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ([3]).

وقد قال بعض المفسّرين: إن الصلب الذي تخرج منه النطفة هو صلب الرجل والمرأة، وهو فقرات ظهريهما، وإن الترائب هي ترائبهما، وهي مجمع عظام صدريهما، وليس أحدهما دون الآخر ([4])؛ ولذلك أوجب الله عليهما الغسل معاً، وأمرهما بالإمعان فيه، حتى جاء على لسان المعصومين: «أن تحت كلّ شعرة جنابة»([5]).

وما ذاك إلّا لأن النطفة تخرج منهما معاً.

وقال بعض المفسّرين: إنه صلب الرجل وترائب المرأة ([6]).

وقال بعضهم: إن الآية لا تصدق إلّا على الرجل؛ بقرينة قوله تعالى في الآية السابقة ﴿خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ([7])، والدفق لا يكون إلّا من الرجل ([8]). وأما المرأة فإنها وإن كانت تفرز مادة قريبة الشبه من مادة الرجل وقد تنزل منها بتهيّج الشهوة أو بالاحتلام، وتوجب عليها الغسل ولكنها لا تخرج بمثل الدفق الذي تخرج به مادة الرجل.

قالوا: ويسند هذا القول قولُ من قال: إن قوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ يدلّ على أن المرأة مزرعة وأن البذرة من الرجل، ومن بذرته ـ وهي النطفة ـ يتكوّن الولد ذكراً كان أو اُنثى.

وقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى([9])، يساعد على ذلك.

ومن نسب ذكورة الجنين أو اُنوثته إلى المرأة فقد ظلمها؛ لأن المزرعة لا تغيّر البذرة وإنما تخرجها كما هي، وما أحسن ما قالت زوجة أبي حمزة عندما سخط عليها زوجها لكثير ما جائت به من البنات، فترك لذلك بيتها، وجعل يأوي إلى بيت الجيران، فقالت في ذلك:

ما لأبي حمزة لا يأتينا
يسخط ألّا نلد البنينا
فنحن كالأرض لزارعينا

يجلس في البيت الذي يلينا
وإنما نأخذ ما اُعطينا
نخرج ما قد بذروه فينا ([10])

وهذه القصة من مصاديق ما قيل: «رب امرأة أفقه من رجل»([11]).

وقد فرض الله لهذه النطفة كثيراً من الأحكام صيانة لشرفها، وحفظاً لقداستها:

فجعل لها حكمها في الاستمناء.

وجعل لها حكمها في العزل.

وجعل لها حكمها في المساحقة.

وجعل لها حكمها في التلقيح الصناعي.

وجعل لها حكمها في نكاح الشبهة.

وجعل لها حكمها في الاحتلام.

وجعل لها حكمها في الإحرام.

وجعل لها حكمها في الصيام.

وجعل لها حكمها في الزنا.

وجعل لها حكمها في الزواج إلى آخره.

فأما حكمها في الاستمناء، فقد روي أنه جيء لأمير المؤمنين× برجل يعبث بيده حتى يستمني، فضربه على يده حتى احمرّت. ولما سئل× عن مصدر هذا التعزير أخبر أنه من كتاب الله، فقال السائل: وأين هو من كتاب الله؟ فقال×: «من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾([12])…».

فإن الاستمناء مما وراء ذلك، فمن استعمله كان من العادين، فعليه التعزير.

وأما حكمها في العزل، فقد قال الفقهاء: إنه جائز من الرجل مع أمته وزوجته المنقطعة([13]) وهي المتمتّعة([14])، وأما بالنسبة إلى زوجته الحرّة الدائمة: فهو مكروه إلّا إذا رضيت بذلك([15]).

وقد جاء في (الدر المنثور) عن أمير المؤمنين× أنه لما سئل عن العزل قال: «إنه الوأد الخفي»([16]).

وأما حكمها في المساحقة، فقد روي عن بعض الفقهاء بأنه حكم على الفاعلة بتغريم المهر إذا حملت المفعول بها وهي بكر؛ لأن الولد لا يخرج حتى تذهب البكارة.

وحكم عليها أيضاً بالرجم إذا كانت المفعول بها غير راضية. وبالجلد إذا كانت المفعول بها راضية. وحكم على المفعول بها أن تجلد حد الزنا إذا كانت راضية.

ويلحق الولد بصاحب النطفة إذا لم يكن للمفعول بها زوج([17]).

وأما حكمها في التلقيح الصناعي، فقد قال الفقهاء بجوازه إذا كان بنطفة الزوج، وكان المباشر هو الزوج بنفسه، فإن حكم الولد حينئذ يكون كحكم سائر أولاد هذين الزوجين.

وأما حكمها في نكاح الشبهة، فإنها تُلحق الولد بصاحب النطفة.

وأما حكمها في الاحتلام، فإنها تعد علامة للبلوغ حتى ولو لم يكمل الولد خمسة عشر سنة، وانه لا شيء على صاحبها حتى في صومه واحرامه إلّا ما جاء عن بعض الفقهاء من أنها تبطل صوم القضاء إذا طلع عليه الفجر قبل أن يغتسل.

وأما حكمها في الصيام والإحرام بالعمد، فقد روي عن أبي الحسن× أنه سئل عن الرجل يعبث بأهله وهو محرم حتى يمني من غير جماع، أو يفعل ذلك في شهر رمضان ماذا عليه؟ قال: «عليه الكفارة مثل ما على الذي يجامع»([18]).

وأما حكمها في الزنا فإنها لا توجب النسب ولا تقطع السبب بل يكون الأمر كما قال رسول الله|: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»([19]).

قالوا: وأول من بدّل هذا الحكم في الإسلام معاوية؛ حيث استلحق زياداً، وسماه زياد بن أبي سفيان، وعاقب من ردّ عليه قوله بأشدّ العقوبة، وأثاب من رضي به وصدّقه بالأموال والولايات؛ حتى قال فيه ابن اُخته عبد الرحمن بن اُمّ الحكم:

ألا أبلغ معاوية بن حرب
أتغضب أن يقال أبوك عفّ
فأشهد أن رحمك من زياد

مغلغلة بما تجني اليدانِ
وترضى أن يقال أبوك زانِ
كرحم الفيل من ولد الاتانِ([20])

وأما حكمها في الزواج، فقد روي عن رسول الله| أنه قال: «اختاروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس»([21]).

وقال|: «اختاروا لنطفكم؛ فإن الخال أحد الضجيعين»([22]). إلى آخره.

وبغض النظر عن ذلك كله، فإن المؤمن لا تليق به إلّا مؤمنة تسايره في العقيدة وتساعده في الاُمور الشديدة، تسانده في المعضلات وترفع عن طريقه العقبات.

 ______________________

([1]) التوحيد: 307.

([2]) البيت لعبد الباقي العمري. الأنوار العلويّة 343.

([3]) الطارق: 7.

([4]) الجامع لأحكام القرآن 20: 7.

([5]) مستدرك وسائل الشيعة 479: 1213.

([6]) مجمع البيان 10: 323.

([7]) الطارق: 6.

([8]) التفسير الكبير 31: 130.

([9]) النجم: 45 ـ 46.

([10]) انظر: الجامع لأحكام القرآن 16: 70، وقد نقل البيتين الأوّلين فقط، البيان والتبيين 1: 108، 581، مجمع الأمثال 1: 64، وفيه: ما لأبي الذلفاء.

([11]) من حديث للصادق×. الكافي 4: 306/ 1.

([12]) المؤمنون: 5 ـ 7.

([13]) المهذّب 2: 223.

([14]) أي المتمتّع بها.

([15]) الخلاف 4: 359/ المسألة: 143، المهذّب 2: 223.

([16]) الدر المنثور 5: 6.

([17]) انظر هذه الأحكام مجتمعة في الكافي 7: 202 ـ 203/ 1.

([18]) تهذيب الأحكام 4: 273/ 826.

([19]) الكافي 5: 491 ـ 492/ 3، 7: 163/ 1.

([20]) تاريخ الطبري 4: 235، الاستيعاب 2: 527.

([21]) إعانة الطالبين 3: 312، وانظر: مكارم الأخلاق: 197، كنز العمّال 16: 296/ 44556.

([22]) الكافي: 5: 332 / 2، تهذيب الأحكام 7: 403 / 1603.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة