شرح دعاء الصباح 21

img

﴿وَافتَحِ اللهمَّ لَنا مَصارِيعَ الصّباح بِمَفاتِيحِ الرَّحمةِ وَالفَلاحِ﴾

المصراعان في الأبواب: بابان منصوبان ينضمّان جميعاً، مدخلهما واحد؛ فهما كمصراعين في بيت، و«الرّحمة» فيه تعالى ليست رقّة القلب؛ لأنّها انفعال، وهو تعالى فعّال مطلق، بل هي الوجُود المنبسط على كلّ ماهية بحسبها، وعلى كلّ مادّة بقدرها؛ فرحمته الواسعة في العقل عقلٌ، وفي النّفس نفس، وفي الطّبع طبع. وبالجملة، جرى حاضر الوقت على لسان القلم:

قَد عَمَّ رَحمَتُهُ كَلاً بِما لا قُوا

  في السَّمِّ سَمٌّ وَفي التّرياقِ ترياقٌ([1])

و«الفلاح»: الفوز والنجاة. استعير الفتح للدخول في الصّبح استعارة تبعيّة. وذكر المصاريع والمفاتيح ترشيحاً.

إن قلُتَ: أحسنُ السجّع على ما قال ابن الأثير: «ما تساوت قرائنه، نحو قوله تعالى: ﴿أمَّا اليَتِيمَ فَلا تَقهر * وَأمَّا السّائلَ فَلا تَنهَر([2]) ثمّ، ما طالت قرينتُه الثّانية نحو: ﴿خُذُوهُ فَغُّلوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلّوُهُ * ثُمّ في سِلسِلَة ذَرعُها سَبعُونَ ذِراعاً فأسلُكُوهُ([3])…».

قلتُ: هذه تُعَدُّ فقرةً واحدة خاتمتها «الفلاح». وقد أوثر المصراع من مطلق الباب؛ لأنّ باب الصّباح هو الوضع الفلكي الخاصّ، وهو سيّال، وكلّ ممتدّ ـ قارّاً كان، أو غير قارّ ـ متجزٍّ إلى غير النّهاية؛ فكلّ وضع مركّب من متقضٍّ ومتكوّن ومتصرّم ومتجدّد. وأيضاً مركّب من الوجود والماهيّة، وكذا ماهيّته من الجنس والفصل، ووجودُهُ من وجه يلي الماهيّة، ووجه يلي الرّب؛ ولذا ذكر المصاريع بصيغة الجمع.

طَوالِع وَلوائِح لِتأوِيلِ مَصارِع ومَفاتح

وكما يُسأل من عناية الفتّاح الرحيم فَتْحَ مصاريع الصّباح الظاهريّ لنا بمفاتيح رحمته، فليسأل فَتْحَ مصاريع الصّباح الباطني بالفتوحات الربّانيّة بناءً على تأويل الفقرة الشريفة. وذلك أيضاً قسمان: صُوريّ، ومعنويّ:

أمّا الصّوريّ، فظهور البوارق واللّوائح واللّوامع من الأنوار الّتي تظهر للسُّلّاك إلى جنابه الأقدس، المسمّاة بهذه الأسامي في اصطلاح العرفاء. وقد ذكر الشيخ الإشراقي شهاب الدين السّهروردي+ في أواخر كتاب (حكمة الإشراق)([4]) عشرة أنواع من النّور يشرق على إخوان التجريد، من أراد تفصيلها وتميزها فليطالع من هناك.

وأمّا المعنويّ، فليعلم أن قد استقرّ على ألْسنَتهم تسمية كلّ من أقسام «الفتح» باسم كـ«الفتح القريب»، و«الفتح المبين»، و«الفتح المطلق»:

فالأوّل: ما انفتح على العبد من مقام القلب([5]) وظهور صفاته وكمالاته عند قطع منازل النّفس والتّرقي إلى منازل القلب في حدود السّير من الخلق إلى الحقّ، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿نَصرٌ مِنَ الله وَفَتحٌ قَرِيبٌ ([6]).

و«الفتح المبين»، هو ما انفتح على العبد من مقام الولاية، وتجليّات أنوار الأسماء الإلهيّة المفنية لصفات القلب وكمالاته. وهذا في مقام السّير في الحقّ، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿إنّا فَتَحنا لَكَ فتحاً مُبِيناً * لِيَغِفرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَما تأخَرَّ([7])، أي من الصّفات النّفسانيّة والقلبيّة.

و«الفتح المطلق» ـ وهو أعلى الفتوحات وأكملها ـ: ما انفتح على العبد من تجلّي الّذات الأحديّة، والاستغراق في عين الجمع بفناء الرسوم كلّها، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿إذا جاءَ نَصرُ الله وَالفَتحُ([8]). وقد يستتبع السّير من الحقّ إلى الخلق، وهو مقام «البقاء في الفناء»، فكلّ طلوع بعد غروب عن اُفق صباح؛ ومن هنا سمّوا نهاية مقام القلب بـ«الأُفق المبين»، وسمّوا نهاية مقام الرّوح ـ وهي الحضرة الواحديّة ـ بـ«الأفق الأعلى».

والمصراعان بحسب هذا التأويل، العلم والعمل. والجمعيّة بالاعتبار المذكور أو باعتبار الموارد([9]).

 _________________________

([1]) شرح الأسماء الحسنى 2: 39.

([2]) الضحى: 10.

([3]) الحاقة: 30 ـ 32.

([4]) حكمة الإشراق: 252.

([5]) القلب هو اللّطيفة المدركة للكليّات والجزئيّات، والنفس هي المدركة للجزئيات، كما أنّ الرّوح هي اللطيفة المدركة للكليّات. وليس المراد بإدراك الكليّات: إدراك النّظريات والعلوم الصرّفة غير المتعلّقة بالعمل، بل ما يشمل العمليّات مثل أن يزور العبد الصالح لله، ويعود المريض لله، لا للتّشهي، ويتعلّم العلم لله لا للجاه، وهكذا. فإن كان قد يعمل لغاية كلية عقليّة وقد يعمل لغاية جزئية وهميّة، فهو في مقام القلب، لا الرّوح. ومنازل النفس بوجه ثمانية: الشره، والخمود، والتقتير، والتّبذير، والجبن، والتهوّر، والجربزة، والبلاهة. وهاتان الأخيرتان على ما في «الشفاء»: إفراط الفكر وتفريطه في تكثير طرق جلب المنافع الدنيويّة، وتقليلها في الغاية.

ومنازل القلب بالإجمال: الأربعة التي هي أركان العدالة الخاصّة من العفّة والسّخاوة والشجاعة والحكمة؛ ففتح أبوابها «الفتح القريب» وتجليّات الأسماء المفنية لصفات القلب هي أن يصير العبد من البدلاء: فيبدّل اسم «الشّجاع» الذي هو من الأسماء الخلقيّة بأسماء الله من القادر والمقتدر والقاهر ونحوها. و«السخيّ» يبدّل باسم القاضي الحوائج والمغيث والمنعم ونحوها، وقس عليه الباقي.

فالعبد الحقيقي ينبغي أن يتخلّق بأخلاق الله تعالى، ونفي صفاته في صفاته وذاته في ذاته كما في «الفتح المطلق» وعند ذلك رأيت الناس يمحقون في نور الله عند طلوع شمس الحقيقة وذوب المجازات، فإن الكلّ بالأمر والنّهي التكويني ممتثلون: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (النصر: 3): أي سبّح بتسبيحه لنفسه: «أنت كما أثنيت على نفسك»، «واستغفره»: أي غطّ وجودك تحت سطوع نوره. والغفر: الستر كما قال العرب: «جاؤوا الجمّ الغفير» والتّوب: الأوب. منه.

([6]) الصف: 13.

([7]) الفتح: 10.

([8]) النصر: 1.

([9]) إذ للسّواد الأعظم الذي هو القلب بابٌ ذو مصراعين عظيم، وكذا للأعظم الأعظم، وللأعظم الأعظم الأعظم. منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة