شرح دعاء الصباح 20 ـ القسم الثالث

img

فكمال المدركة للعقليّات أن تكون شديدة الحدس كثيرته؛ فيكون أغلب مدركاتها حدسيّات لا فكريّات([1])، لَدُنّيّات لا تعليميّات: ﴿يَكادُ زَيتُها يُضِيْءُ وَلَو لَمْ تمْسَسْهُ نارٌ([2])، وتكون شديدة الاتّصال بالأرواح القدسيّة، سيّما الرّوح الأمين المكين عند ذي العرش، كثيرة المراجعة إلى حظيرة القدس مرّةً بعد اُولى وكرَةً بعد اُخرى. وقوّتها أن تكون وافيةً بالجانبيَن، جالسة بين الحدّين ـ المحسُوس والمعقول ـ لا يشغَلُها شأنٌ عَن شأنِ، لا كالعقول الضعيفة إذا ركنتْ إلى جانب ذهلتْ عن الآخر، وشرفها حُرّيّتها عن علائق الأكوان، وترفّعها عن رقّ الحدثان وأسر القوى.

وكمال المدركة للجزئيات أن تكون منقادة للعاقلة، غير مزاحمة لها في إدراكها الحقائق العقليّة، غير منجذبة إلى الجزئيّات الحسّيّة وقوّتها([3])، أن تكون شديدة الاقتدار على التّصوير والتّمثيل، سيّما المتخيّلة الّتي من طبعها المحاكاة([4])؛ فحين يتصل الرّوح القدّسي بعالم اللّاهوت وعالم الجبروت ويتلقّى الحقائق بالمكالمة الحقيقية([5]) من حقيقة المَلَك الّتي هي الآية الكبرى كما قال تعالى: ﴿ولَقَدْ راى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبرى([6]) وقال|: «رأيتُ جبرائيلَ وَقَد طَبَقَ الخافِقَيْن»([7]) يتّصل رقيقته برقيقة الملك([8])، ويتمثّل له حقيقة ذلك الملك المجرّد وذاته، بصورة مليحة تكون أصبح أهل زمانه وأملحهم، وحقائق الوحي والمكالمات الحقيقيّة والمعاني المجرّدة المتلقّاة من عالم الجبروت واللّاهوت بصور كلمات مسموعة فصيحة بليغة هي قوالب تلك المعنى، ورقائق تلك الحقائق، أو بصور أرقام منقوشة في ألواح كذلك، فعند اتّصال حقيقة الرّوح القدسيّ بحقيقة روح الأمين، وتلقّي الحقائق يتعدّى التأثير من العقل إلى القوى الباطنة، ويتمثّل في الخيال، ومنها إلى الحواسّ الظّاهرة، سيّما السّمع والبصر؛ وذلك لأنّ الحسّ المشترك كمرآة ذات وجهين: له وجهٌ إلى الظاهر، وله وجهٌ إلى الباطن، فإذا انتهى المدرَك إليه، فهو مشاهَدٌ محسوس؛ سواء انتهى إليه من الظاهر، أو من الباطن. فسماع كلام المخلوق ورؤية كتابه بأن يُحَسَّ المدرك، ثمّ يُتخيَّل ثمّ يُعقَل، وسماع كلام الله ورؤية كتابه بأن يُدرَك معقولهما، ثمّ يتخيّل، ثمّ يحس، ومن هنا قيل:

آن خيالاتى كه دام اولياست

 

 

عكس مه رويان بستان خداست([9])

 

والمدرَك كمراءٍ متحاذية متعاكسة، وليس ذلك التمثّل مجرّد صورة خياليّة كما زعمه بعضٌ من المتفلسفة المشّائيّة ـ من الّذين لم يبلغوا إلى مقام الفوز بالحُسنيين، والجمع بين الغايتين: الصّوريّة والمعنويّة، ولم يمكنهم تصحيح الإنذارات، مع أنّهم سمّوا أنفسهم حكماء عالمين بالحقائق، والعلم بالحقائق لا يتمّ إلّا بمعرفة الحقائق والرقائق جمعاً، بل هذه الصّور المرئيّة والمسمُوعةُ والنّفحات المشمومة ونحوها في الخارجيّة والقوام، أتمُّ بكثير من الصّور الطبيعيّة الكائنة، بل من الصّور المنطبعة في النّفس المنطبعة الفلكية. وشرفُها، حرّيّتها عن رقّية الإلْف بالمحسوسات الجُزئيّة الدّائرة الّتي لا بقاء لها؛ لأنّ بناءها على شفا جرف هارٍ.

وكمال العمّالة([10]) أن تكون القدرة مستهلكةً في قدرة الله النّافذة، كالميِّت بين يَدّي الغسّال، و«الإرادة» في إرادته الثاقبة. وقوّتها أن يكون الرّوح القدسيّ بحيث كلّ ما تعلّق تصوّره به، وقع بمجرّد تصوّره، وتطيعه مادّة الكائنات، فيتصرّف فيها كتصرّفه في بدنه. وشرفُها، طهارتها فطرةً وعملاً.

إذا عرفتَ هذا، فنقول: إذا كان الرّوحُ القدسيّ قوّتهُ العلّامة كذا وكذا، وقوّته الدّراكة الحسّاسة والخياليّة كيتاً وكيتاً، وقوّته العمّالة ذيت وذيت، فلا غَرْوَ في عصمته عن الخطأ وأن يسدّده روح القدس دائماً إلى الصّواب. كيف، وهو صاحب النّفس اللّاهوتيّة، بل الخطأ والعصيان من الطّوارئ المعلّلة؛ لأنّ الكلّ من معدن العصمة([11]) والطّهارة، إلّا إنّ الأكثر أخلدوا إلى الأرض، واتّبعوا أهواءهم عرضاً وقسراً؟

وصاحب الخصائص الثّلاث المذكورة قلّما يتّفق، والتخلّق بالأخلاق السّبحانيّة شذّ أن يرتزق، ولكنّه أمر مضبُوط واجب الوقوع.

 _____________________

([1]) الفكر حركة أي من المطالب إلى المبادئ، ومن المبادئ إلى المطالب. والحدس ظفرٌ بالمبادئ دفعة بلا فحص، فالحركة الثانية في الحدس مفقودة. منه.

([2]) النور: 35.

([3]) فيكون الروح القدسي النبويّ بحيث يشايعه القوى المدركة بالجزئية في الذهاب إلى العالم العلوي؛ ولهذا كان يعرض للنبي| شبه الغش لاختلاس القوى مع كونه يقظانَ ولم يشغله شأن عن شأن. منه.

([4]) فقد تحاكي الحقائق بصور مناسبة تحتاج إلى التّأويل، فهو كرؤيا تحتاج إلى التعبير، وقد لا يكون كذلك. منه.

([5]) هي إلقاء الحقائق الكليّة ونيلها بالاتّصال الحقيقي بروح القدس والعقل الكلّي. وهذا هو حقّ المكالمة من الله تعالى وملائكته مع عباده المقرّبين، وكذا حقّ نطق نفس النّاطقة إدراكها الكلّيات، وهي الكلمات التّامّات بالنّسبة إلى المسموعات الجزئيّة. منه.

([6]) النجم: 18.

([7]) المبدأ والمعاد: 301. شرح الأسماء الحسنى 2: 38.

([8]) وهي محسوسة مشاهدة قويّة، وكانت في نبيّنا| بصورة «دحية الكلبي»؛ لأنّه كان صبيحاً مليحاً، إلّا إنّه كان طبيعيّاً مشوباً بظلمة المادّة بخلاف ما كان يراه|، فإنّة كان نوريّاً صورياً صرفاً عن مخالطة المادّة الظلمانية، رقيقة حقيقة «جبرئيل» وتمثّله لها الوجود الرّابطي إليه دون الحاضرين معه. والصورة الطبيعيّة لدحية تصعد من المشاعر الظاهرة. إلى الباطن، وهذه الرقيقة تنزل من الباطن إلى المشاعر الظاهرة، وهكذا الكلام في كلماته المسموعة في النّوريّة والصّرافة والنّزول من الباطن. منه.

([9]) الحكمة المتعالية 8: 108. شرح الأسماء الحسنى 2: 38.

([10]) وإذا كان كلّ قدرة مستهلكة في قدرته، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ عَلي‏ کُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ﴾ (فصّلت: 39) ومفاد الكلمة العليّة، أعني: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم»؛ لأن كلّ المبادئ المفارقة من الملائكة المقرّبين، والمبادئ المقارنة من القوى والطّبائع، مظاهر قدرته. وإذا كان كلّ إرادة مستهلكة في إرادته، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الإنسان: 30)، ومفاد الكلمة النبويّة أعني: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»؛ لأنّ الوجود المنبسط مشيّته «خلق الأشياء بالمشيّة والمشيّة بنفسها»، فما حدسك بالقدرة والإرادة النبويّة والولوية؛ لأن لأربابها الاستشعار بالاستهلاك المذكور، وهم في مقام الفناء في الله والبقاء به، بخلاف غيرهم من ذوي الأنانية. منه.

([11]) إشارة إلى الكينونة السابقة العقليّة؛ لأنّ وجود العقل الفعّال مثلاً في عالم الإبداع وجودُ النفس الناطقة؛ إذ لا اختلاف في مراتب الوجود ودرجات النّور الحقيقي البسيطين إلّا بالكمال والنّقص الإضافيّ، وإذ يجوز اختلاف نوع واحد في التجرّد والتّجسّم فضلاً عن الاختلاف في الإرسال والتعلّق، فكينونة الأصل كينونةُ الفرع، وكينونة الحقيقة كينونة الرّقيقة هناك، كما يأتي. منه.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة