الأمن في الإسلام (1)

img

منشأ الأمن والسبيل إليه

حق الله هو منشأ الأمن

يتوقف ثبوت الحق ـ ببداهة العقل – على المالكية؛ فللمالِك حق التصرف في ملكه. ولا يحق لغيره أو من يحلّ محلّه أن يتصرف في ملكه.  وقد ثبت في الإلهيات أن الله سبحانه وتعالى هو مالِك كل الكون، وهو الموجود الوحيد القائم بذاته، وإليه ترجع كل الموجودات في وجودها وبقائها  واستكمالها. فالمالكيّة الحقيقية لله وحده؛ لأنه خالق كل شيء، كما أن بقاء مخلوقاته متوقف على إرادته: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[1]. فهل نعني بالقول: إن حق الأمن ناشئ عن حق الله أنه سبحانه اعتبر هذا الحق، أم أنه حق تكويني وحقيقي؟ فمثلاً عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فهذا لا يعني ذلك أن الله أنشأ قانوناً، وأخبر عباده أنه سليتزم به! بل إن الرحمة هي مقتضى ذات الله سبحانه وتعالى، لكن لابد من استخدام الألفاظ الاعتبارية في الإشارة إلى تلك الحقيقة التكوينية.

إذن الله هو أصل الحقوق، كما عبّر الإمام السجاد×: «وهو أصل الحقوق، ومنه تتفرع». إن الله سبحانه وتعالى هو الحق، ومنه تنشأ سائر الحقوق، وأهم الحقوق التي وهبها الله للإنسان هو الحق الذي يحفظ العلاقة بين الله سبحانه وتعالى والانسان، وهو حق العبودية  الذي يُعدّ الحقّ المقوِّم لبقية الحقوق. ومن هنا فإن الله سبحانه يؤكد على هذا الحق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. ويقول أمير المؤمنين×: «ولكنه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب؛ تفضلاً منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله، ثم جعل ـ سبحانه – من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض…»[2].

ويتفرع من حق العبوديّة: حق الولاية، وحق الحياة، وقد أشار لذلك أمير المؤمنين×: «وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍّ على كل».

لقد اضطهد الانسان من خلال سلبه هذين الحقين؛ حيث سلبت تبعاً لذلك كثير من حقوقه.

ثم يتفرع من حق الولاية حق التولي والتبري ويتفرع من حق الحياة حق العدل و حق الانصاف…، وهكذا حتى نصل إلى حق الأمن ، وهو فرع من فروع حق العدل.  وبذلك يتضح أن كل الحقوق تنشأ من الله الحقّ عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[3] ويمكن القول: إن الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء هي كلمة العبودية التي فطر الناس عليها، والتي تتفرع منها كل الخيرات.

ويستفاد من كلام أمير المؤمنين× أن الحقوق أمور تكوينية ترجع جميعها إلى حق الله سبحانه وتعالى، ومخالفتها أو سلبها يؤدي إلى خلل في التكوين مما يؤخر من وصول الانسان إلى الهدف من الخلقة؛ ويسبِّب عدم استقراره: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[4].

 شرّعت التكاليف للحفاظ على الحقوق

 إن الغرض من التشريع هو الحفاظ على حق العبودية؛ ليستوفي الإنسان عبودیته قدر الإمكان. فالحقّ مفهوم له درجات ومراتب، وإذا استوفی العالم بأجمعه حق العبودیة فإنه سوف يتحقق الهدف من الخلقة، وبالتالي سيحلّ الرضا والأمن والسلام، أما إذا جحد بعض أفراد هذا العالم حق عبودية الله سبحانه وتعالى، فسوف يختل النظام الكوني بمقدار جحودهم، وبالتالي سوف يؤثر ذلك على حالة الأمن والسلام في العالم. ومن هنا تم التأكيد على حقوق البشر، وأنه لابد من رعايتها؛ لأنها تؤثر على حق الله، ولأنها نابعة منه. ولا نعني بحقوق البشر تلك الحقوق التي وضعها البشر ؛ حيث إنه لا مالك إلا الله، فلا يمكن لموجود أن يضع حقّاً سوى الله سبحانه وتعالى. فحقوق البشر ترجع الی الحقوق التشریعیة التي ترجع الی الحقوق التکوینیة، وتتحد جمیعها في حق العبودیة.

لابدّ من ظهور حق العبودية على الأرض بأبهى صوره؛ ولذلك فإننا بحاجة إلى عبد من عباد الله تربّى في حصن ربوبية الله التشريعية والتكوينية؛ ليتولى أمر إرشاد الخلق إلى سبيل عبودية الله سبحانه وتعالى، فكل وليّ من أولياء الله بدأ دعوته مجسداً الآيات: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[5].

قيل في سبب نزول الآيات: إن جماعة من المشركين قالوا لرسول الله|: نتداول العبادة ليزول ما بيننا من البغضاء والعداوة، فأمر اللَّه تعالى نبيه| أن يقول لهم: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[6]؛ وذلك لأن عبودية الأنبياء والمعصومين^ هي منشأ ولايتهم لله سبحانه وتعالی، فتصل ولايتهم إلى حيث {لَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، أي أن مشیئتهم في ظرف مشیئة الله، وتصرفهم في الكون هو استمرار لعبودیتهم.

ولا نقصد بالقول: إن الولاية فرع العبودية: أنها في طولها، أو منفصلة عنها، بل هذه الفروع في الواقع هي فروع عميقة ومترتبة على ثبوت بعضها البعض، وليست مرحلية أو طولية. فولاية المعصوم لا تنفصل ـ في أي مرحلة من مراحلها ـ عن عبودية الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أصبح من حق الولي أن يهدي البشر ويرشدهم، ومن حقه أن يشفع لهم، وهو حقٌّ تقتضيه طبيعة العلاقة بين عبودية الله سبحانه وتعالى، وولاية المعصوم عليه السلام، كما أن من حق الباحثين عن الحقيقة التولّي بولي الله واتِّباعه.

يقول الأستاذ السيد المير باقري: (فالولاية الکلیة للخاتم| تتبع عبودیته المطلقة. إن نفس ولایتهم هي عین عبادة الله ، فیهتدي العالم بهدايتهم^، وموضوع هدایتهم هو إیصال العالم إلی العدل)[7].

يتبع…

____________________

[1] اليزدي، محمد تقي، نظرة إجمالية إلي حقوق البشر في الإسلام، ص 54.

[2] نهج البلاغة / الخطبة: 126.

[3] سورة إبراهيم: 24ـ 25.

[4] سورة إبراهيم: 26.

[5] الکافرون: 1 ـ 5.

[6] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص420.

[7] مقطع من محاضرة بعنوان مفهوم الأمن في الإسلام.

الكاتب الأستاذة فاطمة اليوسف

الأستاذة فاطمة اليوسف

مواضيع متعلقة