حول الإنسان (9)

img

وعلاوة على ذلك فإن الله جلّ وعلا لم يأمر ملائكته بالسجود للطين، بل قال سبحانه: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾، فالسجود لأجل التسوية ونفخ الروح وتحويل الطين إلى إنسان له «أذهان يجيلها، وأفكار يتصرّف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلّبها، ومعرفة يفرّق بها بين الحقّ والباطل والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس».

ولذلك فقد هدم إبليس كلّ ما بنى من العبادة في السنين الماضية، قال أمير المؤمنين×: «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة ـ عن كبر ساعة، فمن ذا بعد إبليس يسلّم على الله بمثل معصيته؟»([1]).

وقد جاء في الكتب المعتبرة أن أبا حنيفة المتوفى ببغداد سنة (150)هـ دخل على الإمام الصادق× فقال له الإمام الصادق×: «اتّقِ الله يا أبا حنيفة، ولا تقِس الدين برأيك، فإن أول من قاس الدين برأيه إبليس، أمره الله بالسجود لآدم فقال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾. فمن قاس الدين برأيه قرنه الله بإبليس».

ثم قال×: «يا أبا حنيفة، أيهما أعظم قتل النفس أم الزنا؟». قال: قتل النفس. قال×: «فإن الله قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلّا أربعة».

ثم قال×: «أيهما أعظم الصلاة أم الصوم؟». قال أبو حنيفة: الصلاة أعظم.

قال الإمام×: «فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فاتّقِ الله ولا تقس الدين برأيك»([2]).

والقياس في اللغة هو التقدير، فـ(قاس الشيء) يعني قدّره بأمثاله، أو قدّره بالمقادير التي يقدّر بها أمثاله، ومنه قياس الأشخاص ببعضهم البعض، قال الحكم ابن العباس الكلبي شاعر بني اُميّة مخاطباً لبني هاشم عندما صلب بنو اُميّة زيد بن علي بن الحسين× بكناسة الكوفة:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة
وقستم بعثمان علياً عداوة
ولم نرَ مهديّاً على الجذع يصلبُ
وعثمان خير من علي وأطيبُ

في (البحار)([3]) وغيره([4]) أن الإمام الصادق× لما بلغه هذا القول رفع يديه إلى السماء وهما يرعشان وقال: «اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلبك». أي الأسد يفترسه. فبعثه بنو اُميّة إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها إذ وثب عليه أسد فافترسه. ولما وصل الخبر إلى الإمام الصادق× خر ساجداً وقال: «الحمد لله الذي أنجز لنا ما وعدنا».

والقياس في الأحكام الشرعية نوعان:

الأوّل: قياس منصوص العلة أو شبه منصوص العلة

وهو معمول به عند جميع المسلمين بما فيهم شيعة أهل البيت^، ومثاله: كلّ مسكر حرام، وكل نجس حرام، فإنهم يعدّون الحرمة لكل مسكر ولكل نجس قياساً على الخمر والدم؛ لأن العلة منصوص عليها وهي الإسكار والنجاسة.

أو شبه منصوص العلّة، وهو ما يعرف بطريق الأولوية كأذيّة الوالدين؛ لأنه تعالى قال: ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾، فبالأولى أن يحرم ما يؤذيهما.

النوع الثاني: قياس مستنبط العلة

وهو الذي لا يقبله أهل البيت^ ويشددون النكير على من يعمل به. ذكر في كتاب (فقه الإمام جعفر الصادق×) للشيخ محمد جواد مغنية& عن أبان بن تغلب المتوفى سنة (141) هـ قال: قلت للإمام الصادق×: ما تقول في رجل قطع أصبعاً من أصابع امرأة؟ قال: «عليه عشر من الإبل» أي كدية أصبع الرجل: قال: قال فإن قطع اثنين؟ قال: «عليه عشرون». قال: فإن قطع ثلاثة؟ قال: «عليه ثلاثون». قال: فإن قطع أربعة؟ قال: «عليه عشرون».

قال: يا سبحان الله! يقطع ثلاثة فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعة فيكون عليه عشرون؟ فقال الإمام×: «مهلاً يا أبان، إن هذا حكم رسول الله| أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث عادت إلى النصف. يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين، وأول من قاس إبليس فقال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ([5])…»([6]).

وفي موضوع نقصان دية المرأة عن دية الرجل يجيئ التعليل بأنها تختلف عنه في التركيب العضوي والنفسي لأن الله جل وعلا خلقها على شكل يتناسب مع وظيفتها في الحياة ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ([7]).

وقد عدّ الفقهاء أكل الطين من المحرمات، وذكروا في ذلك عدة روايات، منها ما روي عن هشام بن سالم& عن الإمام الصادق× أنه قال: «إن الله عزّ وجلّ خلق آدم من طين، فحرم أكل الطين على ذريته»([8]).

وعن أبي الحسن× أنه قال: «أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير إلّا طين الحائر؛ فإن فيه شفاء من كلّ داء، وأمناً من كلّ خوف»([9]).

وعن الإمام الصادق×: «إن من أكل منه غير مستشفٍ به فكأنما أكل من لحومنا»([10]).

قال له رجل من الشيعة: يا مولاي يابن رسول الله، إني تناولت من التربة فما انتفعت بها. فقال×: «أما إن لها دعاء، فمن تناولها ولم يدعُ لم يكد ينتفع بها». قال: فما أقول؟ قال: «تقبّلها وتضعها على عينيك، ولا تتناول منها أكثر من الحمصة؛ فإن من تناول منها أكثر من ذلك فكأنما أكل من لحومنا ودمائنا. فإذا تناولت فقتل الدعاء المذكور: اللهم إني أسألك بحق الملك الذي قبضها، وأسألك بحق النبي الذي خزنها، وأسألك بحق الوليّ الذي حل فيها أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعلها شفاء من كلّ داء، وأماناً من كلّ خوف، وحفظاً من كلّ سوء. وتقرأ سورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ([11]) …»([12]).

قالوا: والملك الذي قبضها جبرئيل، فقد أخذ منها قبضة ومضى بها إلى رسول الله|، والنبي الذي خزنها هو نبينا محمد|، والوليّ الذي حلّ فيها هو الإمام الحسين×.

يتبع…

_________________

([1]) نهج البلاغة / الخطبة: 192.

([2]) علل الشرائع 2: 87 / ب 81 ح 2.

([3]) بحار الأنوار 46: 192، 47: 136، 62: 72.

([4]) كشف الغمة 2: 421، شرح نهج البلاغة 15: 238، وقد نَسب لبعض صالحي أهل البيت^، وانظر: وفيات الأعيان 6: 111، الوافي بالوفيات 13: 81.

([5]) ص: 76.

([6]) الكافي 7: 299/ 6.

([7]) الرعد: 8.

([8]) الكافي 6: 265/ 4، علل الشرائع 2: 532 / ب 1 ح317.

([9]) الكافي 6: 266 / 9، 278/ 2.

([10]) وسائل الشيعة 24: 229 / 30406.

([11]) القدر: 1.

([12]) المزار (المفيد) 147 / ب 64 ح1.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة