شرح دعاء الصباح 18

img

﴿والنّاصِع الحَسَبِ في ذِروَةِ الكاهِلِ الأعْبَلِ﴾

«الناصع»: الخالصُ من كلّ شيء، «نَصَعَ» كـ«ـمنع» نصاعَةً ونصوعاً: خلص. والأمرُ نصوعاً: وضح. ولونُه: اشتدّ بياضُه. و«الحسب» ما يَعُدّه الإنسان من مفاخر آبائه، وهو مأخوذ من «الحساب»، وقال في القاموس: «والحسب ما تعدّه من مفاخر آبائك، أو المال، أو الدّين، أو الكرم، أو الشرف في الفعل، أو الفعال الصّالح، أو الشّرف الثابت في الآباء، أو البال، أو الحسب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء، والشّرف والمجد لا يكون إلّا بهم» انتهى.

ولا يخفى أنّه بجميع معانيه كالنّاصع يناسب المقام إلّا المال. لكنّه أيضاً بحسب الظاهر، وأمّا بحسب الباطن، فالكلّ له|، أَذنَ لأُمّته التصرّف تفضّلاً منه ورحمةً. والفرق الّذي أبداه أخيراً لم يكن على سبيل التباين.

وبالجملة، مفاخره لا توصف، ومآثره لا تُكْتَنَف، سيّما الدينيّة والباليّة والفعاليّة، منها تسبيح الحَصا، وحَنين الجذع، وشقّ القمر، وينبوع الماء من بين أصابعه، وشكاية الناقة، وشهادة الشاة المشويّة، وتكلم الضبّ، وشفاء رَمَدِ ابن عمّه بريقه، وظلّ الغمام، ورؤيته| من خلفه، وكونه لا ظلّ له، وسماع الصّوت نائماً، والعلم بألْسِنَة الحيوانات، وأنّه لا وقع للدنيا في قلبه أصلاً([1]). وكان مع أهلها في غاية الترفّع، ومع أهل الفقر والمسكنة في غاية التّواضع، وكان في أعلى مراتب الفصاحة، ولم يقدم على قبيح قطّ، ولم يفرّ من عدوّه قطّ، إلى غير ذلك من مفاخره الّتي لا تحصى.

وفي الجمع بين «الحسب» و«الشّرف» المذكور في الفقرة السّابقة مراعاة النظير كما في «الكاهل» و«القدم» في الفقرة اللّاحقة.

وذِرْوَة الشّيء بالكسر: أعلاه. و«الكاهل»: مقدّم أعلى الظَّهرْ ممّا يلي العُنُق، وهو الثُّلْث الأعلى. وفيه ستّ فِقَر، أو ما بين الكتفين، أو مَوْصِل العنق والصُّلب. و«الأعبل»: الغليظ الأبيض، وباعتبار البياض المعتبر فيه بُنِيَ على وزن «أفْعَل»؛ لأنّ الصّفة المشبّهة من اللّون على «أفْعَل». ولو لوحظ مجرّد الغلظ والضّخامة، بني على «فَعْل» كضَخْم وصَعْب، كقول الشّاعر:

جُؤجُؤ عَبْلٌ وَمَتْنٌ مُخَضرٌ([2])

قال في القاموس: «العبل: الضّخم من كلّ شيء، وهي بهاء جمع كـ«ـ». وعَبلَ كـ«ـكَرُمَ» ونَصَرَ: ضخم، وكـ«ـفَرِحَ» فهو عبل ككتف، وأعبلَ: غلظَ وابيضّ» انتهى. وكونُه|، أو كونُ حسبه في ذروة الكاهل الأعبل، كنايةٌ عن مجده وشرفه وكرم أصله مثل: «فلان كثير الرّماد»، أي جواد. وفي الخلوص والوضوح، وشدّة البياض المدلول عليها بالنّصوع، وكون الحسب في كذا على أحد الوجهين، و«تشبيه المعقول بالمحسوس» تأكيدٌ ومبالغة في ظهور حسبه العالي، وأنّه كنار على عَلَم، وأنه بمكان لا إمكان لأحد في إنكاره والقدح فيه.

إشراقُ نُور وَلَوِي لِتأويلِ حَسَب مُصطفويّ

تأويله أنّه| يعدّ بوجوده الشّريف مفاخر آبائه([3]) الّروحانيّين من العقول المجرّدين، والأنوار القواهر الأعلين القِدِّيسين. ومقامه ذرِوة كاهل حقيقة الرّوح الأمين كما مرّ؛ فكما كان روحانيّة الأنبياء والأولياء العقلُ الفعّال الواقع في المرتبة العاشرة من السّلسلة الطوليّة، كذلك روحانيّة الخاتَم| عقلُ الكلّ الّذي هو الأصل المحفوظ في جميع العقول.

فإذنْ، جميع صفات عقل الكلّ وأحكامه المقرّرة في فنّ الربوبيات من الحكمة مفاخرُ الحضرة الختميّة.

نعم، مَن كان رُوح القدس في جنان الصّاقورة ذاق من حدائقهم الباكورة، كما قال بعض أولاده الطّاهرة، لا غَرْو في حسبه من أمثال هذه المفاخرة.

تأييدٌ وَتَوفيِقٌ

ومن هنا يوفّق بين القولين: هل غاية الصّلاة عليه، تعود إليه، أم إلى المُصلّي؟ فإنّك متى استشعرتَ أنّ روحانيّته| عقل الكلّ، وعقل الكلّ لا حالة له منتظرةً، علمتَ أنّ الله تعالى قد أعطاه من علّو الدّرجة، ورفع المنزلة ما لا يُتصوّر لممكن، وأنّه ختم الكمال، وبلغ قُصيا مراتب الجمال والجلال بغناء الغنيّ المتعال. ولمّا كانت أُمّته كأوراق وأغصان من شجرة طوبى وجوده، كان العود إلى المُصلّي عوداً إليه|؛ إذ الأوراق من صقع الشجرة فضلاً عن الأغصان. ولهذه الكلّية والسعة، حيث يستصرخ الأنبياء في القيامة بقولهم: «وانفسي!»، يقول هو|: «وا أُمّتي!([4])».

وكيف لا يكون أُمّته عنده كنفسه القدُسيّة، وهو للأيتام أشفق من الأب الشفيق، وللشيّوخ العجزة أرأفُ من الولد الرّؤوف، ولأُولات المسكنة من الأرامل أرحم من الزّوج الرّحيم، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه، بل يؤُثِر كثيراً على نفسه، كما هو مقتضى مقام الفتوّة، فهو كأنّه الكلّ؟

وقد ورد عن بعض أولاده الطاهرة في حقّهم^ في الزّيارة المسمّاة بالجامعة الكبيرة: «ذِكرُكُم في الذّاكِرينَ، وَأسماؤُكُم في الأسْماء، وَأجسادُكُم في الأجسادِ، وأرواحُكُم في الأرَواحِ، وَأنفُسكُم في النُّفوُسِ، وَآثاركُم في الآثارِ»([5]).

_____________________________

([1]) وأمثال هذه، وأخلاقه التي قال تعالى فيها: ﴿إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وشهوده الذي فوق كلّ شهود لها التفضيل عند الكمّل على كلّ آية مع كونه|جامعاً للكلّ. منه.

([2]) القاموس المحيط 3: 129- عبل.

([3]) عدّه مفاخر العقول الطّوليّة التي في السّلسلة النّزولية تخلّقه واتصافه بأخلاق الرّوحانّيين، وأخلاقهم أخلاقُ الله تعالى. بل المقامات ثلاث: التعلّق، والتخلّق، والتحقّق. وهو| في أعلى مراتب مقام التّحقّق. ومن محقّقي الحكماء المتقدمين والمتأخّرين من يقول باتّحاد النّفس الناطقة بالعقل الفعّال بعد الاستكمال، فكيف حال النّفس الكليّة الإلهيّة، والرّوح الختمي الذي هو سيّد أُولي العزم الذين هم سادات الرّسل الذين هم سادات الأنبياء الذين هم سادات الخلق كما قال|: «أنّا سيّد ولد آدم و لا فخر»؟ منه.

([4]) ومن أُمّته الأئمة والسّادات فضلاً عن أُممهم وأشياعهم. وكيف لا يكون له السّعة، ومن ألقابه عقل الكلّ، بل الوجود المنسبط الذي هو وجه الله، والرحمة الواسعة، وغير ذلك من الأسماء الحقيقة المحمديّة عند أهل الحقيقة؟ منه.

([5]) من لا يحضره الفقيه 2: 616. تهذيب الأحكام 6: 100.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة