شرح دعاء كميل (٣)

img

﴿اَسألُكَ﴾

السؤال يستعمل في الداني بالنّسبة إلى العالي، بخلاف الالتماس فإنه يستعمل في المساوي، وأمّا في العرف فاشتهر بعكس ذلك.

﴿بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلّشَيَءٍ﴾

المراد بالرحمة هنا: الوجود المطلق الذي هو قسم من مطلق الوجود والمشيّة الفعليّة، كما ورد: «إنّ الله خلق الأشياء [بالمشيئة] والمشيئة بنفسها»([33]). والوجود المنبسط والفيض المنبسط الّذي فاض على كلّ الماهيّات والأعيان الثابتات المرحومة بها، والفيض المقدّس؛ لأنّه بذاته عارية عن أحكام الماهيّات، كما أنّ ظهور ذاته تعالى بالأسماء والصّفات في المرتبة الواحديّة يسمّى بالفيض الأقدس، لا ما هو عبارة عن رقّة القلب؛ لأنّ استعمالها خاصّة بالممكن، يقال: فلان رحيمٌ، أي رقيق قلبه، يعني: إذا رأى فقيراً مثلاً ـ وهو ذو النّعمة وَ السّعة ـ يرحم عليه بالإعطاء.
ومن ألقاب ذلك الوجود المطلق الذي عبّرنا به عن الرحمة: النفس الرحماني، والإبداع، والإرادة الفعليّة، والحقيقة المحمّدية‘.
[مراتب الوجود]
وتحقيق ذلك: أنّ للوجود مراتب مختلفة بالشدّة والضّعف: الوجود الحقّ، والوجود المطلق، والوجود المقيّد.
فالأوّل: هو الوجود المجرّد عن جميع الأوصاف والألقاب والنّعوت.
والثّاني: هو صنع الله وفيضه المقدس، ومشيئته الفعليّة، ورَحمته الواسعة، وإبداعه وإرادته الفعليّة، والنّفس الرحمانيّة، وعرش الرحمن، والماء الذي به حياة كلّ شيء، وكلمة «كن» الّتي أشار إليها أمير المؤمنين× بقوله: «إنّما يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع»([34]). وفعل الله، وبرزخ البرازخ، وغير ذلك من الأوصاف والألقاب.
والثالث ـ أي الوجود المقيّد ـ : هو أثره تعالى، كوجود العقول والنفوس، والملك والفلك، والإنسان و الحيوان، وغير ذلك.
[الرحمة الرحيميّة و الرحمة الرحمانيّة]
فإذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الرحمة رحمانيّة ورحيميّة، وهي مختصّة بأهل التّوحيد، وهم العالمون بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر. وبالجملة: الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم، وعرّفهم توحيده وأنبيائه وأوليائه وما جاء به النبيّون.
والرحمة الرحمانيّة لا تختصّ بشيء دون شيء، بل هي وسعت كلّ شيء، ومرحومة بها جميع الماهيّات، من الدرّة البيضاء إلى الذرّة الهباء، حتّى أنّ الكافر والكلب والخنزير وإبليس، وكلّ ما تراه في غاية القذارة والحقارة والملعنة أيضاً مرحومة بها؛ إذ تلك الرحمة أمر الله الذي يأتمر به كلّ موجود، وكلام الله الذي لا خالق ولا مخلوق، وفعل الله الذي اشتمل على كلّ المفاعيل، وخطاب الله المتخاطب به جميع الأعيان الثابتة، وصنع الله الذي كلٌّ مصنوع بذلك الصنع.
فمن كان له عقل صريح وقريحة مستقيمة يعلم أنّ الصانع هو الله، والصنع ذلك الوجود، والمصنوع الموجودات، وكذلك الآمر والأمر والمؤتمر، والخالق والخلق والمخلوق، والمتكلّم والكلام والمخاطب، والرحمن والرحمة والمرحوم، وهكذا.
وفي الحديث القدسي قال: «رحمتي تغلب على غضبي»([35])، يعني: تعلّق إرادته تعالى بإيصال الرحمة أكثر من تعلّقها بإيصال العقوبة، فإنّ الرحمة من مقتضيات صفة الرحمانية والرحمية، والغَضَب ليس كذلك، بل هو باعتبار المعصية.
وفي الحديث: «إنّ لله تعالى مأة رحمة»([36]).
أقول: كأنّه× أراد الكثرة لا تحديد الرحمة؛ إذ علمت أنّ رحمته تعالى صفته، وصفات الله كلّها غير متناهية، فإنّه حُقّق في موضعه أنّ صفاته الحقيقيّة عين ذاته تعالى، وذاته غير متناهية عدّة ومدّة وشدّة، فكذلك صفاته غير متناهية.
ثمّ إنّ الشيء في قوله: ﴿كلّ شيء﴾ بمعنى: مشيء وجوده، وهو الماهيّة؛ إذ هي مشيء وجودها.
والباء في قول السّائل ﴿برحمتك﴾ إلى آخره، للاستعانة، ويجوز أن يكون للسببيّة، وفيه إشارة إلى أنّه مرحوم بكلتا الرّحمتين.
أمّا بالرّحمة الرّحمانيّة، فوجوده ومشاعره وأعضاؤه وجوارحه جميعاً شاهدة على مرحوميّته ومرزوقيّته من الله تعالى؛ إذ ورد عن أمير المؤمنين× حين سئل عن الرّحمن، قال: «الرّحمن هو الذي يرحم ببسطه الرزق علينا، والرّحيم هو العاطف علينا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، وخفّف علينا الدين فجعله سهلاًَ خفيفاً، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه»([37]).
[أرزاق الموجودات]
فاعلم أنّ جميع الموجودات مرزوقة من الله تعالى، كلٌّ على حسب ما يقتضيه العناية الإلهيّة:
فرزق العقول الكلّية: هو مشاهدة جمال الله تعالى وجلاله، والالتذاذ بالاستغراق في تجلّياته و إشراقاته.
ورزق النفوس: اكتساب الكمالات، واقتناء العلوم والصّناعات.
ورزق الأملاك: التسبيح والتهليل والتقديس؛ إذ رزق كلّ شيء ما به يتقوّم ذلك الشّيء.
ورزق الأفلاك: هو حركاتها الدوريّة، وتشبّهاتها بالملأ الأعلى الوضعيّة.
ورزق البدن: ما به نشؤه وكماله، على نسبته اللّائقة به.
ورزق الحواسّ: إدراك المحسوسات، فرزق الباصرة: المبصرات، والسامعة: المسموعات، والذائقة: المذوقات، والشامّة: المشمومات، واللّامسة:الملموسات.
ورزق البنطاسيا: درك جميع المحسوسات الظاهرة والباطنة، غير ما يدرك بالوهم.
ورزق الخيال: ما يأتيه من الحسّ المشترك ويحفظه.
ورزق المتخيّلة: درك الصّور الجزئيّة المجرّدة عن المادّة.
ورزق الواهمة: إدراك المعاني الجزئية.
ورزق العاقلة: إدراك المعاني الكلّية.
حتّى أن رزق الماهيّات: الوجودات الخاصّة.
وأمّا إنّ السائل مرحوم برحمته الرحيميّة، فأيمانه و أسئلته دالّة عليها دلالة واضحة.

 

الهوامش

([33]) الكافي 1: 110/ 4، وفيه: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».
([34]) الاحتجاج 1: 302. بحار الأنوار 4: 254 ـ 255/ 8.
([35]) الكافي 2: 275/ 25. الجواهر السنية: 335، وفيهما: «إن رحمتي سبقت غضبي».
([36]) الاختصاص (للمفيد): 39. بحار الأنوار 6: 219.
([37]) التوحيد (للصدوق): 232، وفيه: بحذف «هو العاطف».

 

الكاتب المولى عبد الأعلى السبزواري

المولى عبد الأعلى السبزواري

مواضيع متعلقة