أفضل العبادة انتظار الفَرج

img

فهي إذاً الغاية العمليَّة لأصل الخلق كما مرَّ ، و بدونها لايتصف الخلق بالحكمة أصلاً. و من هنا صار من اللازم أن نتحدَّث عن هذه العبادة ، أعني الانتظار أكثر تفصيلاً ، و ذلك لأهميَّتها من بين سائر العبادات ، و سوف نبيِّنها ضمن عناوين مختلفة فنقول:

معنى الانتظار في اللغة و الاصطلاح

المعنى اللغوي:

كلمة الانتظار قد أُشتقت من ( نظر ) ، قال صاحب المفردات : ( نظر :‏ النظر تقليب البصر و البصيرة لإدراك الشيء و رؤيته ، و قد يراد به التأمل ، و الفحص ، و قد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص … ، و النظر الانتظار يقال نظرته ، و انتظرته ، و أنظرته ) . و هناك كلمتان في اللغة معناهما متقاربان مع هذه الكلمة ، و قد استعملتا في القرآن الكريم أيضاً ، و هما :

1- رصد‏ : الرصد الاستعداد للترقب يقال رصد له ، و ترصد ، و أرصدته له . قال عز و جل : (و إرصاداً لمن حاربَ اللهَ و رسولَه مِن قَبلُ ) ، (سورة التوبة 107).

قال في النهاية : يقال رصدته إذا قعدت له على طريقه ، تترقبه و ارصدت له العقوبة ، إذا أعددتها ، و حقيقته جعلتها على طريقه كالمترقبة له . ( نقلاً عن الأمالي بإسناده .. قال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه يوما ، و هو يعظهم ترصَّدوا مواعيد الآجال ، و باشروها بمحاسن الأعمال ) ، (بحار الأنوار ج77 ، رواية 35 باب 14) .

وقال عليٌّ في نهج البلاغة : ( اعلموا عباد الله ، إن عليكم رصَداً من أنفسكم ، و عيوناً من جوارحكم ، و حفاظ صدق يحفظون أعمالكم ، و عدد أنفاسكم لاتستركم منهم ظلمه ليل داج ) ، (بحار الأنوار ج5 ، ص 322 ، رواية 3 ، باب 17)

2- رقب : قال تعالى و الرقيب الحافظ ، و ذلك إما لمراعاته رقبة المحفوظ ، و إما لرفعه رقبته قال تعالى: ( و ارتقبوا إني معكم رقيب ) ، ( سورة هود : 93 ).  و قد وردت أحاديث استعملت فيها هذه الكلمة بمعنى الانتظار ، منها ، ما ورد في نهج البلاغة عن عليٍّ عليه السلام قال : ( و من ارتقب الموت سارع في الخيرات )  ، ( بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 368 ، رواية 17 ، باب 27) .

منها : في كتابه عليه السلام لمحمَّد بن أبي بكر: ( ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولاتعجل بها قبله لفراغ ، و لاتؤخرها عنه لشغل.. ) ، ( بحار الأنوار ، ج 83 ، ص 14 ، رواية 25 ، باب 6 ) .

 ثمَّ إنَّ الراغب الإصفهاني عند بيان مادة ( صبر ) قال : ( و يعبر عن الانتظار بالصبر ، لما كان حق الانتظار ، أن لاينفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر قال ( فاصبر لحكم ربك )  ، ( سورة الإنسان  24) ، أي انتظر حكمه لك على الكافرين.

أقول: إنَّ هذا الاستعمال ، هو استعمال مجازي من باب استعمال اللازم ، و إرادة الملزوم ، و هو شائع في كلام العرب.


السرُّ في أهميَّة الانتظار

لمعرفة السرّ في ذلك ينبغي لنا أالسرُّ في أهميَّة الانتظارن نتحدَّث بالتفصيل حول واقع الانتظار بذكر مقدَّمة مختصرة فنقول :

إن التقييم في القاموس الإلهي ، يختلف تماماً عن التقييم في القاموس المادِّي ، و من الخطأ جداً محاولة ، تقييم القضايا المعنوية الراقية و المفاهيم الروحانية السامية بالمعايير الماديَّة ، حيث أن هناك بونٌ بعيد بينهما ، بل هما في طرفي النقيض ، و قد وصل التضادّ بينهما إلى مستوى بحيث لايمكن أن ينقطع الإنسان إلى المعنويات إلا بالابتعاد الكامل عن المادِّيات ، و أعنى بالابتعاد عنها هو عدم التوجُّه إليها ، و عدم انشغال الذهن بها.

هذا و مفهوم الانتظار ، أعني انتظار فرجِ الله ، هو في الواقع يندرج تحت اسم من أسماء الله تعالى أعنى ” الكاشف ” كما في الدعاء : ( يا صريخ المكروبين و يا مجيب المضطرين و يا كاشف الكرب العظيم ) ، (بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 323 ، رواية 69 ، باب 45).

يا كاشف الغم )  ، ( بحار الأنوار ، ج 36 ، ص 205 ، رواية 8 ، باب 40 ؛ ( يا كاشف الكرب العظام ) ، ( بحار الأنوار ، ج 86 ، ص 235 ، رواية 59 ، باب  44).

و على ضوئه صار مفهوم الانتظار مفهوما معنويا إلهياً ، حيثُ أنَّه لا يمكن لشيءٍ أن يكتسب جانباً معنوياً ، و يشتمل على بعدٍ مُقدَّس إلاّ بارتباطه بالله سبحانه ، و بمقدار ظهور اسم الله فيه ، فلنترك إذاً الساحةَ المادية ، و لنبحث عن الأفضلية في الساحة الإلهية المعنوية.

فنقول :  القرب إلى الله ميزان الأفضلية ، ثم لايخفى على كلِّ من آمن بالله سبحانه ، أنه ليس في القاموس الإلهي إلاّ ميزان واحد ، يقاس به الأفضلية ، و هو الميزان الحقيقي ( و هو الحق ) ، و غيره ليست بموازين ، بل يُترائى أنها موازين ، فلاحقيقة لها ، و لاثِقل فيها قال تعالي : ( و الوزنُ يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه ، فأولئك هم المفلحون ) ، ( سورة الأعراف 8 ) ، (و من خفت موازينه ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، بما كانوا بآياتنا يظلمون ) ، ( سورة الأعراف 9) ، ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) ، (سورة يونس 23).

و هذا الميزان هو   “التقرب إلى الله سبحانه و تعالى ” ، فيجب أن نبحثَ عن مستوى التقرُّب إليه تعالى في الانتظار ، و على ضوءه نقيِّم مستوى قدسيِّة الانتظار ، حتَّى نعرف السرَّ في أفضليَّته على سائر الأعمال ، بل حتَّى العبادات بحيث صار المنتظر كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله.

– الرجـاء بالله

إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج تنميةَ روحيةِ الرجاء بالله في الإنسان المؤمن ، حيث يُشاهد أمامَه مجالاً وسيعاً من الفضل و الكرم و الخير الإلهي ، الذي سوف تظهر مصداقيَّتُها في تلك الدولة العظيمة المباركة ، و هي دولة المهدي المنتظر صلوات الله و سلامه عليه ، تلك الدولة الكريمة ، التِّي يعزُّ الله بها الإسلام ، و أهلَه ، و يذلُّ بها النفاق و أهلَه ، و من الطبيعي لمن يمتلك هذه الرؤية ، أن يحتقر العالم الذي يعيشه بما فيه من المُغريات الخلاّبة الدنيوية و التسويلات الشيطانية ، و هذا الأمر ( أعني تحقير المظاهر الدنيويَّة ) ، هو أوَّل خطوة يخطوها السالك إلى الله ، و هي  ( التخلية ) ، التِّي تستتبعها (التحلية) ، و مثل هذا الإنسان المؤمن قد وصل بالفعل إلى مُستوى من العرفان و العبودية ، بحيث يكون لسان مقالِه حالِه و عملِه هو ( صلِّ على محمدٍ و آل محمد ، و أثبتْ رجائك في قلبي ، و اقطعْ رجائي عمَّن سواك حتى لاأرجو إلا إيّاك ..) ، ( بحار الأنوار، ج 86 ، ص 216 ، رواية 30 ، باب 44).

ثمَّ يترقَّى في العبوديَّة فيقول : ( بسم الله الذي لاأرجو إلاّ فَضله ) ، ( بحار الأنوار ، ج 90 ، ص 164 ، رواية 15 ، باب 9) ، ( يا من أرجوه لكل خير ) ، (بحار الأنوار، ج 47 ، ص 36 ، رواية 35 ، باب 4).

هذه الروحية ، إن تركَّزت في الإنسان المؤمن فسوف تُعمِّق جذورَها ، فتقمع جميعَ الأشواك و الموانع الصادَّة ، لتنشرَ فروعَها الطيِّبة و ثمارَها الجنيَّة في السماء ، حتَّى تؤتى أكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها . فكيف لايكون الانتظار أفضلَ الأعمال بل أفضل العبادات ؟! ، و هو الذي يُخيِّم على جميع الأعمال ، و يُلقى الضوء عليها.

 أفضل الجهاد

ما هو الأمر المتوقع من المجاهد في سبيل الله حين الجهاد ؟ ، و ما قيمة المجاهد لولا النيّةُ الصادقة ، التي تنصبُّ في سبيل الله؟

هذا الأمر بنفسه بل أعلى مستوى منه متوفِّر في المنتظر الحقيقي ، الذي يتمنَّى في كلِّ صباحٍ و مساءٍ ، أن يعيش في ظلِّ ذلك المعشوق روحي لتراب مقدمه الفداء و لسان حاله ( ..فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً قناتي ملبياً دعوةَ الداعي في الحاضرِ و البادي .. )  ، و هو بقربه إلى الله ، و شهوده مقام ربِّه صار كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله شهيداً في سبيل الله ، و ليس للشهيد خصوصيةٌ كمصداق بل الخصوصية و القيمة لمفهوم الشهادة ، التي تعني الوصول إلى الله و شهود وجه المحبوب ، و المنتظِر يؤدِّي نفس الدور ، حيث يشاهد وجهَ ربه و هو في نفس الوقت ، يعايش الناس ، و هذه الحالة هي التي تحقِّق فيه الصفاتِ الحسنة ، التي ذكرت في الأحاديث الشريفة على ما سيأتي عند بيان أخلاق المُنتظِر. و الحديث التالي قد بيَّن السر الذي رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة:

( عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن على بن الحسين عليه السلام ، قال تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلَّم ، و الأئمة بعده يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره افضل أهل كل زمان ، لان الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول و الإفهام و المعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزله المشاهدة ، و جعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلَّم بالسيف أولئك المخلصون حقا ، و شيعتنا صدقا ، و الدعاة إلى دين الله سرا و جهرا ، و قال : انتظار الفرج من اعظم الفرج) ، (بحار الأنوار ، ج 52 ، ص 122 ، رواية 4 ، باب 22).

و ماذا بعد الفرج ؟ ، إلا كشف الكربة عن وجه المؤمن برؤية الواقع و الأمر ، حينما تتحقق تلك الدولة العظيمة ، التي تملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما مُلِئت ظلماً و جَوراً؟

 فالانتظار إذاً له نتيجتان :

 1-إنَّه بالفعل يُحقِّق ( كشف الكربة ) ، بنحو مجمل.

 2-إنَّه عاملٌ جذري أساسي للفرج بظهوره سلام الله عليه ، حيث يسود الحكمُ الإلهي الأرضَ كلّها.

و وِزانُ الانتظار وزانُ النية ، التي هي خير من العمل حيث جاء في الحديث ” نية المؤمن خير من عمله” ، لأن هذه النية من ناحية هي التِّي ترفع مستوى الإنسان ، و من ناحية أخرى تلازم العمل بل توجده ( قل كلٌ يعملُ على شاكلته) ، (سورة الإسراء 84).

و ليعلمْ أنَّ تعجيل الفرج يتناسب مع الانتظار شدَّةً و ضعفاً . و من هذا المنطلق نشاهد أن الآية الكريمة تصرح بقولها :

(.. و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) ، (سورة البقرة 214). فقربُ نصر الله متناسبٌ مع طلب النصر ( متى نصر الله ) ، و هذا الطلب الأكيد لا يحصل إلاّ بعد اليأس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) ، (سورة يوسف 110)

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة