أدوار الإنسان

img

قال تعالى: 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾().

هذا السؤال وما يماثله من الأسئلة الموجودة في القرآن الكريم وارد إما للتقرير أو للتنبيه؛ لأن السؤال الاستفهامي لا يحصل منه جلّ وعلا ولا يليق به؛ لأنه إنما يحصل ممن لا يعلم لمن يعلم، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ().

وهو جلّ وعلا ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ()، فلابد أن يكون هذا السؤال وارداً للتقرير أو للتنبيه.

وجواب الإنسان على هذا السؤال لا بدّ أن يكون بكلمة «نعم»، فقد مضى على الإنسان بكامل نوعه وعلى كلّ إنسان بمفرده ﴿ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴾.

والحين: الزمان، ويقع على القليل والكثير؛ فلا حدّ لأوله ولا حدّ لأكثره وإن كان فقهاء الإمامية قد أفتوا فيمن نذر أن يصوم حيناً من الدهر أن يصوم ستة أشهر()، ورووا عن الإمام الصادق(ع) أنه سئل عن رجل قال: لله علي أن أصوم حيناً، وذلك في شكر، فقال(ع): «قد اُتي علي(ع) بمثل هذا، فقال: صم ستة أشهر، فإن الله تعالى يقول: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾()  يعني ستة أشهر»().

قالوا: وإنما قال ذلك لأن أغلب الشجر ومنه النخلة تؤتي اُكلها من الرطب بعد نهاية كلّ الرطب بما يقارب ستة أشهر. ويحتمل بعضهم أن يكون هذا العدد المذكور في جوابه(ع) تحديداً لأقل الحين.

وأما أكثره فلا حدّ له؛ فإن مرحلة العدم التي مرت على الإنسان بكامله أو بمفرده لا يعلمها إلّا الله جلّ وعلا.

ثم لما خلق الله الماء من مادّتي الهيدروجين (H) والأوكسجين (O) انتقل الإنسان من مرحلة العدم الكلي إلى مرحلة الوجود المائي، فهي المرحلة الثانية، باعتبار أن مرحلة العدم الكلي هي المرحلة الاُولى. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً().

وليس الإنسان فقط هو المخلوق من الماء؛ بل وحتى غيره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء()، بل حتى السماء والأرض؛ فإنه جلّ وعلا خلق الأرض من زبد الماء والسماء من دخانه.

ويقدر علماء الآثار أن هذا الخلق حصل قبل نحوٍ من خمسة عشر مليار سنة، وبهذا الخلق ـ يعني خلق الأرض من زبد الماء ـ انتقل الإنسان إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الوجود الترابي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ().

ثم عجن التراب بالماء، فحصل منه الطين، وبذلك انتقل الإنسان إلى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الوجود الطيني، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ() ومعنى السلالة: الخلاصة.

ومن هذه المرحلة خلق آدم(ع)، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ().

وقد ذكر مولانا أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه لمحة من هذا التكوين فقال(ع): «ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها تربة سنَّها ـ أي عجنها ـ بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة ـ أي وخمرها بالبلة ـ حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحفاء ووصول ـ أي ذات أضلاع وعروق ـ وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت ـ أي وأصلبها حتى يبست ـ لوقت معدود وأمد معلوم، ثم نفخ فيها من روحه، فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وأفكار يتصرّف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلّبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس».

ولا شك أن هذا الكلام منه يختص بآدم(ع).

أمّا حواء: ففي أمرها خلاف، فمنهم من قال: إنها÷ خلقت من فاضل طينة آدم(ع)()، وعلى هذا فإن الأدوار التي مرت بها حواء هي الأدوار التي مر بها آدم، وهي الأدوار الأربعة التي مرّ ذكرها.

ومنهم من قال: إنها خلقت من ضلع آدم(). ويحتج أهل هذا القول بأن في خلقها من ضلع آدم تفنّناً في القدرة أوّلاً، ولتنال شرف السجود لآدم ثانياً.

ويقول أهل هذا القول: إن في ظاهر الكتاب والسنّة ما يساعد على ذلك، فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا().

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا().

وقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا().

ومن السنّة ما روي عن النبي| أنه قال: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج»().

وقد أشكلوا على هذا القول بأن علم التشريح قد أثبت أن أضلاع الرجال لا تنقص عن أضلاع المرأة، كما يزعم بعض أهل هذا القول، وأن عدد أضلاعهما واحد.

وردوا عليهم: بأن هذا القول لا يصلح أن يكون إشكالاً؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى أن الله خلق حواء من ضلع آدم أن: «من» للتبعيض، وأنه سبحانه خلقها من بعض ضلعه لا منه كله، كما أنه يخلق الجنين من بعض نطفة أبيه لا من نطفته كلها.

وأما من حيث إن هناك أحاديث عن بعض المعصومين(ع) تنفي ذلك القول، كحديث الإمام الصادق(ع)، فإن هناك أحاديث تثبته كحديث الإمام زين العابدين(ع)، وحينئذ فلا إشكال.

ومن أجل أن تتم الفائدة فإنا سنورد لك الحديثين، فنقول: روى صاحب تفسير (الميزان) في البحث الروائي عن الآية الاُولى من سورة النساء، عن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر(ع): من أي شيء خلق الله حواء÷؟ فقال: «أي شيء يقولون هذا الخلق؟». قلت: يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم(ع) فقال: «كذبوا».

ثم أخبر(ع) أن أباه أخبره عن آبائه: أن الله خلقها من فضلة طينة آدم(ع).

قال صاحب الميزان&: «أقول: وروى الصدوق عن عمر و مثله».

ثم قال: «وهناك روايات تدلّ على أن الله سبحانه خلق حواء من خلف آدم، وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر». ثم قال: «ومنها ما في (الاحتجاج) عن زين العابدين(ع) في حديث له مع رجل من قريش يصف فيه تزويج بلوزا اُخت قابيل وتزويج قابيل بأقليما اُخت هابيل، قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: «نعم». فقال له القرشي هذا فعل المجوس اليوم. قال: فقال: «إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله». ثم قال: «لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلّها له؟»…»().

وعلى هذا القول: فقد مرت حواء÷بدور خامس، وهو دور الضلع.

وأما أبناء آدم فقد انتقلوا إلى دور النطفة، ثم إلى دور العلقة، ثم إلى دور المضغة، ثم إلى دور العظام، ثم كسيت العظام لحماً، ثم أنشأهم تعالى خلقاً آخر، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. 

وقد أخبر رسول الله| عن ذلك بقوله: «خلقتم من سبع ورزقتم من سبع»().

فأما السبع التي خلقنا منها فهي ما ذكرتها الآيات الكريمة حيث تقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾، وهو أصلاب الآباء وأرحام الاُمّهات، ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ().

وأما السبع التي رزقنا منها فهي ما ذكرتها الآيات الكريمة حيث تقول: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ()().

وإذا كان الإنسان من نطفة كما قالت الآيات السابقة، والنطفة من الدم، والدم من المطاعم والمشارب، والمطاعم والمشارب من الماء والتراب ـ كما قالت الآيات اللاحقة ـ فكلنا من الماء والتراب، وهو الطين؛ فلا فرق بيننا وبين أبينا آدم(ع) إلّا أنه خلق من الطين بدون واسطة، وخلقنا نحن من الطين بواسطة الأبوين. وقد أثبت العلم أن نسبة الماء تشكّل في جسم الإنسان من (65 ـ 70%)، وأن التراب يشكّل من (30 ـ 35%).

وعندما ينتقل الإنسان من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات فإنه يكون في مرحلة الوجود النباتي بحيث ينمو كما ينمو النبات، فينتقل من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ومن مضغة إلى عظام، ثم تكسى العظام لحماً. كلّ ذلك وهو في مرحلة الوجود النباتي ليس لديه إحساس ولا إدراك، وهو الدور الخامس.

وعندما تلجه الروح فإنه ينتقل حينئذ إلى مرحلة الوجود الحيواني؛ حيث يحصل له شيء من الإحساس ولكن بدون إدراك.

ومعنى ذلك أن الإنسان في تلك المرحلة يحس بالألم والراحة، ولكنه لا يدرك ما ذلك الشيء الذي يحسه، يعني أنه لا يستطيع أن يشخّص ذلك الشيء، ويبقى في هذه المرحلة إلى ما بعد الولادة بزمن غير قليل. ويستدلّون على ذلك بأنه إذا كبر لا يستطيع أن يصف ما مرّ عليه في أحشاء اُمّه، ولا ما مرّ عليه في حال ولادتها به، ولا يدري أين ولد ولا متى ولد ولا كيف ولد، وإذا علم عن شيء من ذلك بعد ذلك فإنما علمه من غيره، ومع أنه أحسّ بألم الولادة وشدتها إلّا إنه لا يعلم ما هو ذلك الشيء الذي يحسه.

وقد استدلّوا على إحساسه بألم الولادة وشدتها بأنه عندما خرج من اُمّه خرج باكياً صارخاً، وربما خرج مغمى عليه لشدة ما ألم به. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:

ولدتك اُمّك يابن آدم باكياً
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا

***

والناس حولك يضحكون سروراً
في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقد أخبر القرآن بأن يوم ولادة الإنسان من أعظم أيّامه عليه، فقال تعالى عن نبيّه يحيى بن زكريا(ع): ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا().

قال المفسّرون: وإنما سلم جلّ وعلا على يحيى في هذه الأيام الثلاثة، وألهم نبيه عيسى(ع) أن يسلم على نفسه فيها فيقول: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا()؛ لأنها أعظم وأشد الأيام التي تمر على الإنسان، واللاحق منها أعظم من السابق. فنسأل الله أن يعيننا على ما بقي منها كما أعاننا على ما مضى، وهو يوم الولادة الذي لا تقل فيه شدة المولود عن شدة اُمّه إلّا إن تلك الشدة تهون على الاُم لفرحها بالمولود، فجزى الله الاُمّهات خيراً.

ثم ينتقل الإنسان بعد ولادته بأعوام إلى مرحلة الوجود الإنساني، وهي مرحلة الإدراك والإحساس، ولا يزال كذلك إلى أن يشاء الله. وقد أشار القرآن الكريم إلى كلّ ذلك الانتقال والتطوّر في المراحل الاُولى فقال: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أي انتقال بعد انتقال، وتطور بعد تطور ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ().

قال المفسرون الأوائل: إن الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة().

وقال الأواخر: إن التقارير الطبية والاكتشافات العلمية قد أوضحت أن الجنين في بطن اُمّه محاط بثلاثة أغشية صمّاء لا ينفذ منها الماء ولا الضوء ولا الحرارة، وتسمى هذه الأغشية: المنباري() والأمينوني() والحزبوري.

والغشاء الذي لا ينفذ منه الماء ولا الضوء ولا الحرارة يسمى في اللغة: ظلمة.

وقد أشار القرآن إلى تطور الإنسان في المراحل الاُولى والأخيرة، فقال تعالى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(). نعم هكذا الإنسان: لا يرجو لربّه وقاراً، ولا يقيم لتكوينه ولا لتطوّراته اعتباراً:

نسي الطين ساعة أنه طيـ
لبس الخزّ جسمُه فتباهى

***

ـن مهين فصال تيها وعربدْ
وحوى المالَ كيسُه فتمرّدْ

 فكيف به إذا لبس الحرير والذهب، وأكل الحرام، وعاقر المدام، وملك الرقاب، وخامره طيش الشباب؟ ماذا يمنعه بعد ذلك أن يسفك الدماء، ويُبكي الأرض والسماء؟

وعلى الاُفق من دماء الشهيديـ
فهما في أواخر الليل فجرا

***

ـنِ علي ونجله شاهدانِ
نِ وفي اُولياته شفقانِ()

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة