سليمان وبلقيس

﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾.

إن سليمان بن داود(ع) كما ذكر الله تعالى آتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له الجن والإنس والطير وجميع ما خلق الله وسخر له الريح تجري بأمره ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ﴾ وكانت الطيور تظله عن الشمس كل في مركزه وعلى نوبته وأن الهدهد لما أخل بمركزه ونزلت الشمس على سليمان من موضعه رفع رأسه وقال ما لي لا أرى الهدهد الآية فأرسل خلفه من يطلبه فجيء به فلما مثل بين يديه ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ وذكر له خبر الملكة بلقيس وما هي فيه من الملك والعقيدة فكتب سليمان كتاباً، نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ودفعه إلى الهدهد وقال: ﴿اذْهَب بِّكِتَبِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ استتر عنهم قريباً منهم ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ ماذا يردون من الجواب فمضى الهدهد بالكتاب فأتاها وهي مستلقية فألقاه على صدرها فقرأته وقامت من فورها وجمعت الأشراف من قومها لتأخذ رأيهم فلما أخبرتهم ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾  بالصلح أو القتال فعرضت في جوابهم بترك القتال مذكرة لهم ما يؤول إليه أمره ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ أهلكوا أهلها وخربوها ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ ورأت أن تصانع سليمان جرياً على عادة الملوك حتى يتبين لها أنه ملك أو نبي فجهزت هدية ثمينة عظيمة جاء في وصفها أنها تشتمل على خمسمائة غلام وخمسمائة جارية وخمسمائة لبنة من الذهب وخمسمائة لبنة من الفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وحقاً فيه درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية معوجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت إليه كتاباً بنسخة الهدية وقالت إن كنت نبياً فميز بين الوصفين والوصائف وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقباً مستوياً وأدخل الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولا جن وقالت للرسول انظر إليه إن دخلت عليه فإن نظر إليك نظرة غضب فلا يهولنك أمره فأنا أعز منه وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنه نبي مرسل فانطلق الرسول بالهدايا وسبقه الهدهد مسرعاً وأخبر سليمان بأمر الجن أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب ولبنات الفضة وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال للجن علي بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره ثم قعد على سريره الذي لم يصنع مثله لأحد من الملوك بداية ونهاية ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس والجن فاصطفوا فراسخ وأمر الوحش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من هدايا الذهب والفضة فلما وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظراً حسناً بوجه طلق وقال ما ورائكم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة فأتاه بها فحركها وجاءه جبرئيل وأخبره بما فيها قائلاً إن فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وادخل الخيط في الخرزة فأرسل سليمان إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها وخرجت من الجانب الآخر ثم قال من لهذه الخرزة يسلكها الخيط فقالت دودة بيضاء أنا يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط فدخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر وكانت الجوار الخمسمائة المرسلة في الهدية قد لبسن لباس الغلمان ولبس الغلمان لباس الجوار وطلبت بلقيس أن يميز بينهم فأمر الجميع بغسل وجوههن وأيديهن فكان الغلام يصب الماء على ظهر ساعد اليد والجارية على باطنه وبذلك ميز بين الجميع.

ثم قال سليمان للرسول ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ ارجع إليهم بما جئت به من الهدايا ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فرجع الرسول فأخبرها بما رأى فحق لديها إنه نبي وإنها لا تقاومه فتجهزت للمسير إليه طائعة وأخبر جبرئيل سليمان أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه فقال سليمان لا ماثل جنده وأشراف عسكره ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ وخص عرشها بالذكر ليجعل ما هو عين مملكتها دليلاً ومعجزة على صدقه ونبوته لأنها خلفته في دارها وأوثقته ووكلت به ثقات قومها يحرسونه ويحفظونه ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ من مجلسك الذي تقضي فيه وكان سليمان يجلس للقضاء غدوة إلى نصف النهار فقال سليمان أريد أسرع من ذلك فعند ذلك قال الذي عنده علم من الكتاب ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فقال له سليمان افعل فسأل الله تعالى في ذلك بالأسم الأعظم فحضر العرش فرآه سليمان مستقراً عنده ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ﴾ موضوعاً بين يديه في مقدار رجع البصر ﴿قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ ثم قال ﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ غيروا لها سريرها على حالة تنكرها إذا رأته ﴿نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ أي أنستدل بعرشها على قدرة الله وصحة نبوتي وتهتدي بذلك إلى طريق الإيمان والتوحيد أم لا فغير ما كان منه أحمر فجعل أخضر وبالعكس وازدادوا فيه وأنقصوا منه ﴿فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ فقيل لها فإنه عرشك فما أغناك إغلاق الأبواب وكانت خلفته وراء سبعة أبواب ولقد دل جوابها على كمال عقلها فإنها إن قالت هو خشيت الكذب لما رأت فيه ما تنكره وما لا تعرفه أولاً والإتيان به من وراء هذه الأبواب وهذه السرعة ما لا يدخل تحت قدرة البشر ثانياً وإن قالت لا ليس هو خشيت الكذب أيضاً فإنها وجدته عين عرشها إذ وجدت فيه ما تعرفه منه.

﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾وهو البناء المنبسط كالسطح المنكشف من غير سقف عمله سليمان ممرداً من قوارير مجوفاً وأجرى تحته الماء المملوء بالحيتان والضفادع ودواب البحر ليختبر عقلها وما قالته فيها فإنهم أساءوا القول فيها مخافة أن يتزوجها فلا ينفكون تسخير سليمان وذريته لأن أمها جنية ﴿َلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ بحراً ﴿وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾ فقال ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ﴾ وليس بماء ولما رأت سرير سليمان والصرح قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين فحسن إسلامها.

وفي الحديث عن الإمام الهادي(ع) أنه أجاب عن سؤال أكان سليمان محتاجاً إلى علم آصف بن برخيا الذي عنده علم من الكتاب أم أن سليمان لم يعجز عن معرفة ما عرفه آصف لكنه(ع) أحب أن تعرف أمته من الإنس والجن أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله تعالى ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق.

الكاتب الشيخ علي المرهون

الشيخ علي المرهون

مواضيع متعلقة