دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 05

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

بين المعجزة والكرامة

ونشير هنا إشارة عابرة إلى ينبغي التوجّه إلى أن هنالك فرقاً بين المعجزة والكرامة؛ فالمعجزة كل شيء خارق للعادة يكون نتيجة تحدٍّ من قبل المدعو الرافض لدعوة الداعي أو الرسول×؛ فيطالبه بأن يأتيه بشيء يثبت صدق دعواه هذه. فإذا ما جاءه الرسول× بشيء معجز لا يستطيع الإنسان العادي أن يأتي بمثله، أي أنه يجيء الناس بأمر خارق للعادة يكون سبباً لقبولهم دعواه×. ومن هنا نجد أن هذا الأمر المعجز ينطوي على صفتين هما:

الأولى: أنه معجز لا يتمكن أي إنسان من أن يأتي بمثله.

الثانية: أنه جاء نتيجة تحد من الطبقة الرافضة لدعوة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

 هذه هي المعجزة، أما الكرامة فهي ما كانت أمراً خارقاً للعادة كذلك، ومعجزاً للغير عن أن يأتي بمثله، لكنها لا تكون نتيجة تحد من إنسان أبداً، بل إنها تكون نتيجة أحد أمرين:

الأول: أنها تكون نتيجة طلب إنسان ما من النبي أو المعصوم أن يفعل له أمراً خارقاً لا من باب التحدي، ولكنه من باب الاعتقاد بقدرة النبي أو المعصوم على الإتيان بمثل هذا؛ لحاجة طالبه إليه.

الثاني: أن يكون ابتداء من النبي أو المعصوم’؛ ليثبتا به للآخرين أحقيتهما وقدرتهما على الإتيان بكل ما هو معجز بتيسير وفعل من الله تبارك وتعالى([1]).

وعليه فهؤلاء حينما قالوا للنبي عيسى×: ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ فإنهم إنما أرادوا أن يبينوا له بأنهم بحاجة إلى أن يسكتوا صوت المعدة أولاً، ثم بعد ذلك يكون باستطاعتهم ومقدورهم أن يلتفتوا إلى قوله وأن يسمعوا منه، وأن يقوموا إلى عباداتهم ليؤدوها. ولهذا فإن النبي عيسى× أخذ هذا الجانب بعين الاعتبار، وأراد منهم في المقام الالتزام بأمرين:

الأول: أنه× أراد منهم ألّا يتّخذوا من هذا دافعاً وداعياً لهم ليكون منطلقهم إشباع غرائز النفس الوضيعة فقط، بل إنه× أراد لهم أن يعوا أن هدفهم ينبغي أن يكون أكبر من هذا غاية، وأبعد منه شأواً بأن يجعلوا رغبتهم هذه، ومحاولتهم طلب المائدة منطلقاً لهم نحو الهدف الأكبر، وهو بناء النفس البشرية بناء صحيحاً وسليماً متقوّماً بقوام الدين، ومؤطّراً بإطار السماء. ولهذا فإن عليهم ألّا يسألوا لأنفسهم البلاء.

الثاني: ألّا يدع× لهم موطئ قدم ينطلقون منه لمعارضته، فكان أن دعا الله تبارك وتعالى كما ذكر الله سبحانه لنا ذلك في كتابه العزيز بقوله: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ﴾([2]).

أثر عاملي التكافل والضمان في المجتمعات البشرية

إن توجه نبي الله الكريم عيسى بن مريم× إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء بقوله: ﴿رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ يوحي إلينا بأمر هام جدّاً كانت البشرية ولازالت تعتبره العمود الأساس الذي تقوم عليها حياة المجتمعات، ألا وهو الضمان الاجتماعي، ولهذا فإن هذه القصة عنه× تدفعنا إلى البحث في أمرين هامين هما:

أولاً: فكرة التضامن الاجتماعي هذه على اختلاف مواردها، وضرورة وجودها داخل المجتمعات البشرية.

ثانياً: آلية تسيير هذا اللون من التضامن الاجتماعي المتكامل داخل تلك المجتمعات، والكيفية التي تقع فيها وتتم عبرها حتى يكون مفهوماً منبسطاً على جميع أفراد المجتمع البشري من جهة، وعلى جميع حالاته المشروعة من جهة اُخرى.

وفي مقابل الضمان نجد هناك مفهوماً آخر هو مفهوم التكافل، وهو من الضرورات البشرية التي تقوم عليها المجتمعات كذلك. ولمعرفة الفرق بين هذين المفهومين لابدّ من التوجه إلى تعريفهما؛ لنستشف من خلاله ذلك الفرق بينهما، فنقول:

الضمان الاجتماعي أو التضامن هو عبارة عن إعطاء من يجد لمن لا يجد. فهو مساعدة مالية مادية يقدمها من عنده القابلية على تقديمها إلى من لا يملكها، ولا يتمكن من توفيرها لنفسه عن طريق العمل أو غيره من الطرق المشروعة المنصوص عليها في الديانات السماوية.

وعليه فالضمان هو أن يقوم أفراد المجتمع الذين يملكون الأموال والسلع والحاجات بتقديمها إلى من لا يملكها منهم، أي من أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه؛ سواء في دائرتهم الاجتماعية، أو في دائرة اجتماعية اُخرى غير دائرتهم.

أما التكافل، فهو عبارة عن مفهوم يمتد ليصل إلى ما هو أوسع من مفهوم الضمان، فهو يشمل الحاجات المادية والمعنوية المتعلقة بالعقل والنفس والروح، كتوفير متطلبات العقل وإشباع جوعه، وكذلك توفير متطلبات النفس والروح وإشباع جوعهما؛ سواء كان على مستوى الدراسة والعلم، أو على مستوى التثقيف الديني أو غيره من مستويات المعرفة والتثقيف التي تتطلع إليها البشرية.

يتبع…

_________________

([1]) كما حصل في كثير من المناسبات مع الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم)، ومنها اصطحاب الإمام زين العابدين× محمد بن الحنفية إلى الحجر الأسود حيث سلم على الإمام بتسليم الوصية؛ مما أدى إلى إذعان محمد بن الحنفية له، والقول بإمامته بعد أبيه الإمام الحسين×، فعن الإمام أبي جعفر× قال: «لما قتل الحسين× أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين’، فخلا به، فقال له: يابن أخي، قد علمت أن رسول الله| دفع الوصية والإمامة من بعده إلى أمير المؤمنين× ثم إلى الحسن×، ثم إلى الحسين×، وقد قتل أبوك (رضي الله عنه) وصلي على روحه ولم يوصِ، وأنا عمك وصنو أبيك، وولادتي من علي× في سني وقديمي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصية والإمامة، ولا تحاجّني. فقال له علي بن الحسين×: يا عم، اتقِ الله، ولا تدّعِ ما ليس لك بحق، إني أعظك أن تكون من الجاهلين. إن أبي يا عم (صلوات الله عليه) أوصى إليّ قبل أن يتوجه إلى العراق، وعهد إليّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله| عندي، فلا تتعرض لهذا؛ فإني أخاف عليك نقص العمر، وتشتت الحال. إن الله عز وجل جعل الوصية والإمامة في عقب الحسين|، فإذا أردت أن تعلم ذلك، فانطلق بنا إلى الحجر الأسود؛ حتى نتحاكم إليه، ونسأله عن ذلك.

وكان الكلام بينهما بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود، فقال علي بن الحسين× لمحمد بن الحنفية: ابدأ أنت فابتهل إلى الله عز وجل، وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل. فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين’: يا عم لو كنت وصياَ وإماماً لأجابك. قال له محمد: فادع الله أنت يابن أخي وسله. فدعا الله علي بن الحسين’ بما أراد’ ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء، وميثاق الأوصياء، وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي×. فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، فقال: اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي’ إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول الله|. فانصرف محمد بن علي وهو يتولى علي بن الحسين×». الكافي 1: 348، باب ما يضل به بين دعوى المحق و…، ح5. دلائل الإمامة: 206 ـ 208 / 129. الهداية الكبرى: 220 ـ 222.

([2]) المائدة: 144.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة