دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 02

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المبحث الثاني: مورد القصة في آية المقام الكريمة

ولأهمية هذا الجانب في المسيرة التربوية التي دأب دستور السماء القرآن الكريم على انتهاجها في عملية تربية الإنسان والمجتمعات، كان لابدّ من إيقاع الكلام هنا في بحثين:

البحث الأول: في الحادثة المرتبطة بالآية الكريمة

إن الأحداث التي تكفلت بسردها هذه الآية المباركة، وهي قوله تعالى: ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ تتعلق بنبي الله وروحه عيسى×، فهي تتناول جزءاً من حياته الشريفة متعلقاً بالجانب الإعجازي عنده×. يروي المفسرون أن نبي الله عيسى بن مريم× كان إذا خرج أتبعه خمسة آلاف، أو أقل أو أكثر؛ وكان بعضهم أصحابه، وبعض منهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض بهم أو يشفيهم من عمى، غير أن بعضاً منهم كانوا يستهزئون به.

فخرج× يوماً إلى موضع، فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا، فقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو الله بأن ينزل علينا مائدة من السماء. فجاءه شمعون فأخبره أن الناس يطلبون منه بأن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء. فقال النبي عيسى× لشمعون: «قل لهم ﴿اتَّقُوا الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾([1])». أي اتقوا الله تعالى، وليكن هدفكم أكبر من الغريزة، ومن أهداف النفس الوضيعة، وأمره أن يقول لهم: «لا تسألوا لأنفسكم البلاء».

فأخبر شمعون بذلك القوم، فقالوا لشمعون: قل له: إننا إنما ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ﴾ من هذه المائدة، فـ ﴿تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾، أي تسكن إلى ما دعوتنا إليه، ﴿وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ بأنك نبي، ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أمام من غاب عنا، ولمن سيجيء بعدنا.

فقام النبي عيسى×، وصلى ركعتين، ثم دعا الله تعالى بذلك، فأنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء، تهوي إليهم، والنبي عيسى× يبكي خوفاً من الشروط التي أخذ الله جلّ شأنه عليهم فيها من أنه سوف يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين. فكان× يدعو الله تبارك وتعالى في مكانه، ويقول: «إلهي، اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذاباً، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شاكرين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً وجزاء، إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة».

فما زال× يدعو الله تعالى حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى مثلها قط، وخر النبي عيسى× والحواريون معه لله ساجدين شكراً؛ لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة. وأقبل اليهود ينظرون، فرأوا أمراً عجيباً أورثهم غمّاً، ثم انصرفوا بغيظ شديد، وأقبل النبي×، والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى، فقال النبي عيسى×: «من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر اسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟». فقال له الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا بالكشف عنها؛ فافعل.

فقام النبي عيسى (عليه الصلاة والسلام) فاستأنف وضوءاً جديداً، ثم دخل مصلّاه، فصلى بذلك ركعات ثم بكى طويلاً ، ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً.

ثم انصرف فجلس إلى السفرة، وتناول المنديل، وقال: «باسم الله خير الرازقين». وكشف السفرة، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلاناً، قد وضع حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة: على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى×: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال×: «أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ إن أخوف ما أخاف عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية».

فاعتذر شمعون وقال: لا وإله إسرائيل، ما أردت بها سؤالاً يابن الصديقة. فقال عيسى×: «ليس شيء مما ترون من طعام الجنة، ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له: كن؛ فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله، واحمدوا عليه ربكم يمددكم منه ويزدكم؛ فإنه بديع قادر شاكر».

وأقبل روح الله عيسى× والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية. فقال عيسى×: «سبحان الله، أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟». ثم أقبل× على السمكة، فقال: «يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت». فاضطربت، وعادت بإذن الله حية طرية، تدور عيناها، ففزع القوم منها وانحازوا، فلما رأى عيسى× ذلك منهم قال: «مالكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفن عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون. يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت».

فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول، فقالوا لعيسى×: كن أنت يا روح الله، الذي تبدأ بالأكل منها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها، خافوا أن يكون في نزولها سخط، وفي أكلها مثله؛ فتحاشوها، فلما رأى ذلك عيسى× دعا لها الفقراء والزمنى، وقال: «كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، فيكون مهيؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختتموه بالحمد لله، ولكم المهنا ولغيركم البلاء». ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمئة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، وقد استغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زمِن أكل منها، ولم يزالوا كذلك حتى خرجوا من الدنيا.

ونظر النبي عيسى× والحواريون إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، لم ينقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء صُعُداً، وهم ينظرون إليها، حتى توارت عنهم. وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة، وبقيت حسرتها في قلوبهم([2]).

إذن فالآية الكريمة إنما هي في مضمار الحديث عن هذه المعجزة التي حصلت للناس على يدي النبي الأكرم عيسى بن مريم×، وتصوير الحالة التي كان عليها بعض من كان معه؛ سواء كان من أصحابه وأتباعه، أو ممن لم يكونوا كذلك، بل حتى  من بعض الحواريين الذين أبوا أن يأكلوا منها كما رأينا. وبناء على هذا فإننا نجد أن هذه الآية الكريمة إنما هي تصوير حي وواضح لطبيعة النفس البشرية التي كان عليها الناس في مواجهتهم لسفراء السماء، ولدعاة الله تبارك وتعالى إلى دينه.

يتبع…

___________________

([1]) المائدة: 57.

([2]) انظر: مجمع البيان 3: 454 ـ 457، تفسير السمرقندي 1: 450 ـ 451، تفسير القرآن العظيم  4: 1246 ـ 1250 /  7040، تفسير البحر المحيط 4: 59، الجامع لأحكام القرآن 6: 364 ـ 374، تفسير البيضاوي 2:  139، 355، التفسير الكبير 12: 63 ـ 64.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة