الشيخ الوائلي ريادة في تطوير المنبر الحسيني ـ 02

img

العلامة الشيخ حسن الصفار

ويمكننا الحديث عن أهم معالم مدرسته الخطابية في السمات التالية:

السمة الأولى: العقلانية وإثارة الوعي:

فخطاب الشيخ الوائلي يعتمد على المنهجية العلمية الموضوعية، في معالجة القضايا التي يتناولها، بتحليل طبيعة الموضوع وعرضه، ثم تناول الآراء المختلفة حوله، ومناقشتها ومحاكمتها عبر البرهنة والاستدلال، بعيداً عن التهويل والتهريج، والأساليب العاطفية التي تحشو خطاباتها بالروايات الضعيفة، والنقولات غير الموثقة، وبسرد الأطياف والأحلام.

صحيح أن العاطفة مدخل للتأثير على الفكر والسلوك، ولكن ضمن الحدود السليمة، والضوابط الصحيحة، وإلا تحوّل المنبر إلى مسرح لعرض الأساطير والخرافات، وشطحات الغلو والمبالغات.

كما أن العصور والأجيال تختلف وتتفاوت في مستويات ابنائها وتوجهاتهم، فإذا كان المنهج العاطفي مقبولاً ومؤثراً في عصر وجيل سابق، فإن شرائح المثقفين في هذا العصر، وعموم أفراد المجتمع الذين نالوا حظهم من التعليم الأكاديمي، وانفتحوا على وسائل المعرفة والاعلام، لا تقبل الإغراق في الطرح العاطفي، وتتطلع إلى الخطاب العلمي المنهجي، وإذا لم يقدم لها الفكر الديني بشكل مقنع، فستنجذب إلى التيارات والتوجهات الأخرى.

وإقبال الشباب والمثقفين والأكاديميين ضمن جمهور المستمعين لمحاضرات الشيخ الوائلي وتأثرهم بطروحاته دليل على نجاح هذا المنهج وفاعليته.

وإذا كانت خصوصية المنبر الحسيني تستدعي استحضار الجانب العاطفي، حيث قامت أعواده في الأصل لإحياء مظلومية الامام الحسين×، والتذكير بمأساة الطف الفظيعة التي ارتكبها الأمويون بحق سبط الرسول| وسيد شباب أهل الجنة، وبحق اسرته وعائلته الشريفة. إلا أن توجيهات أئمة أهل البيت^ كانت تؤكد على توظيف الجانب العاطفي لأحياء أمر أهل البيت^ ببث معارفهم وعلومهم، وتخليد سيرتهم العطرة لتكون نبراس هداية، ومصدر إلهام وتوجيه لأجيال الأمة. كما ورد عَنْ عَبْدِ اَلسَّلاَمِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ اَلرِّضَا‘ يَقُولُ: (رَحِمَ اَللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا، قُلْتُ: كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ، فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا). [الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا×، ج1، الطبعة الأولى 1404ه، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات)، ص275.]

وكانت نقطة الانعطاف والتحول عند الشيخ الوائلي، والذي بدأ خطابته في بيئة تقليدية يسود فيها الخطاب الموغل في البعد العاطفي، هي انتباهه وملاحظته لغلبة وسيطرة الجانب العاطفي على خطاب المنبر الحسيني، في مقابل غياب البعد الرسالي والتوظيف المبدئي.

لذلك اتجه الشيخ الوائلي إلى إنتاج خطاب جديد على هذا الصعيد، تكون المساحة الأكبر فيه لعرض مفاهيم الإسلام، وتعاليم مدرسة أهل البيت^، وإظهار مواقفهم الرسالية المبدئية الرافضة للظلم والفساد والانحراف، والهادفة إلى توعية الأمة، وتعميق القيم الإنسانية الفاضلة في نفوس أبنائها.

مع تخصيص جزء محدود من الوقت يختم به الخطاب، لإثارة الوجدان والعاطفة الصادقة بحب أهل البيت×، واستشعار الحزن والأسى للآلام والمصائب التي حلت بهم من ظالميهم ومناوئيهم ومغتصبي حقوقهم.

ملتزماً في ذلك بذكر ما ورد في المصادر التاريخية والحديثية المعتبرة، بلغة رصينة واسلوب رزين، حيث ينتقي من الشعر الرثائي ما يتصف بهذه السمات، وقد أشار في موارد متعددة من كتابته عن تجربته المنبرية إلى هذه المنهجية التي اعتمدها، ومنها قوله: (إن الخطيب قد يبذل جهداً بصورة مبالغ فيها أحياناً، تحشد فيها صنوف من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى، استحضرت خصيصاً للمناسبة، وبشكل يبدو عليه التكلف، وتضاف إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات، لتتضافر جميعها في ابكاء الحاضرين، إن مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة، وظّفت من أهل البيت لتكون وسيلة فاعلة في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف، وتجنيد النفوس لاستشعار مصيبة أهل البيت، لا لتكون غاية في ذاتها تطغى على الهدف الأهم.

ولقد أدت ولا شك دورها، وكانت سلاحاً فاعلاً حين تعذر حمل باقي الأسلحة، ولكنها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة، وإن بقيت وسيلة لتحصيل أجر، لما فيها من مواساة لأهل البيت، ومشاركة في أحزانهم، فحري بها أن تقدر بقدرها، وأن تأتي بصورة عفوية، وبدون تكلف يخرجها من الطبيعي إلى المصطنع) . [أحمد الوائلي، تجاربي مع المنبر، ص60.]

(يقوم بعضهم بتكريس المنبر للنياحة والفجائع، وإيراد شواهد وأحداث تفجر الدموع، وتحرق القلوب، ولا شيء غير ذلك. مع أنّ حصة الدمع من المجلس لها حجم معين لا يستدعي هذا الكمّ الكبير من الشعر الدارج والجمل والمقاطع، التي تحصر المجلس في نطاق اللوعة، وكأنّ الحسين× ما قتل إلاّ ليؤسس مؤسسات للندب والنوح. وهذا ليس بجزاء لتلك التضحيات الضخمة والعطاء الكبير.

على أنّ الدمع الذي يسيل عند ذكر مأساة الحسين× تلقائياً، وبدون تعمّل وتكلّف، هو ردّ فعل طبيعي لا يحتاج إلاّ إلى إثارة بسيطة، ولا ينبغي أن نميل بجهودنا عن جوهر موقف الحسين×، أو السفر الضخم من العظات والعبر الذي كتبته دماء الحسين، ونتوجّه بجهدنا إلى حمل إنسان على البكاء، وإسالة دمع قد يسيل على شيء تافه. ومن المهم أن ننتبه إلى أنّ الروايات الواردة في فضل البكاء على الحسين×، والتي لسانها لسان إطلاق أنّها مقيّدة بعدّة قيود فينبغي الالتفات إلى ذلك.

إنّ ذلك حيث كان الدمع موقفاً، أو جزءاً من موقف يلعب دوراً في الإعلان عن ظلامة أهل البيت، وشجب مواقف أعدائهم، ويعمل على الشحن والتعبئة ضد المنكر والبغي، ومن أجل ذلك يستحقّ أن يكون عملاً يستحقّ عليه صاحبه الثواب، ويسلك مع المجاهدين كما يحقّق معنى المواساة. وبالجملة ينبغي أن يكون بقدر المطلوب لا غير) . [المصدر نفسه، ص199-200.]

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة