الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 20

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المبحث السادس: حرم رسول الله| بين المدينة والشام

هكذا تزينت المدينة لهذا الحدث السارّ العظيم، ولبست أبهى حلّتها، وراحت من خلال هذا التكريم الذي منحه إياها| تتباهى على مثيلاتها من المدن؛ فعاشت الفرحة مرّات ومرّات، لكنها في المقابل عاشت بعد فترة من رحلته| إلى ربّه لوعة وحزناً شديدين وكبيرين، بل منقطعي النظير، وذلك حينما عادت قافلة الأسر من الشام إلى هذه المدينة بعد مقتل السبط المخلد الإمام أبي عبد الله الحسين×. وهذا ما يمكن أن نستجليه من خلال المقارنتين التاليتين:

الاُولى: دخول الفواطم

فإذا كانت الفواطم اللاتي اصطحبهن الإمام أمير المؤمنين× إلى المدينة المنورة قد بعثن السرور والغبطة والفرح في قلب النبي الأكرم|؛ إذ وصلن سالمات خفرات، لم يصبهن أذى بفضل أمير المؤمنين×، فإن قافلة الفواطم التي صحبها الإمام السجاد زين العابدين× إلى المدينة المنورة قد بعثت الحزن والأسى والألم في قلبه الشريف المقدّس|، وآلمت نفسه الكريمة (أرواحنا له الفداء)؛ ذلك أنها بدخولها إلى مدينته| قد استجمعت معها كل ملامح معركة الطف الخالدة، وصورها المؤلمة، وما جرى فيها مشاهد قتل وتنكيل، ومن جرائم وفظائع، وما إليه.

الثانية: بشير وناعٍ

وإذا كان النبي الأكرم| قد دخل المدينة المنورة يحمل بين يديه تباشير النصر الإلهي بانبلاج فجر هذا الدين الجديد، وببزوغ صبحه الخالد، فإن عائلته| حينما دخلت إلى المدينة بعد واقعة الطف دخلت وهي تحمل عليها أثراً من دماء صرعى الطف، ومن دماء ضحايا تلك الواقعة المفجعة التي ألمت بالمسلمين جميعا.. دماء تلك الاُسرة المقدّسة والضحايا الطاهرة التي عزّ على رسول الله| مصرعها؛ فقد بعث الإمام السجاد ببشر بن جذلم([1]) لينعى الإمام السبط لأهلها:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها *** قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضـرج *** والرأس منع على القناة يدار

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين ‘ مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم وأنا رسوله إليكم، أعرفكم مكانه. قال: فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزت، فلم أرَ باكيا أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرَّ على المسلمين منه([2]).

وهذا ما دفع بعقيلة الطالبيين السيدة زينب الكبرى اُخت الإمام الحسين× لأن تأخذ بعضادة باب بيتها في المدينة، وتنشد فتقول:

مدينةَ جدِّنا لا تقبلينا *** فبالحسـراتِ والأحزانِ جينا
خرجنا منك بالأهلين جمعاً *** رجعنا لا رجالَ ولا بنينا([3])

حيث إنها استشعرت أنها قد رجعت إلى دار كانت تبعث في نفسها ذكريات الأنس والفرح، والدعة والراحة.. دار تبعث فيها ذكريات تنحو بها إلى تذكّر أخيها أبي عبد الله الحسين×، واُمها الزهراء، وأبيها وأخيها الحسن^؛ إذ دخلتها وهي خالية مقفرة، ليس فيها أحد من أهلها وحُماتها، فطفقت تجول في تلك الدار:

اخوي من اطب عندك دار *** أرد عيني وأصد فكري
أخاف اتشوف ملعبنا *** الدرجنا بيه من صغري
تمرّ اطيوفك اعليّه *** مثل عذب الهوى تجري

* * *

منازل كانت نيّرات بأهلها *** تولّى عليها غبرة وقتامُ
ألا لا تزان الدار إلاّ بأهلها *** على الدار من بعد الحسين سلامُ

يتبع…

____________________

([1]) كما هو التحقيق وإن اشتهر بالحاء المهملة.

([2]) انظر: مقتل الإمام الحسين× (أبو مخنف): 239. اللهوف في قتلى الطفوف: 115.

([3]) بحار الأنوار 45: 198. ينابيع المودّة 3: 94.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة