الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 06

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

التشريع العمالي في الفقه الإسلامي

ولنؤكدَ هذا المعنى أكثر، ولنثبتَه، ونثبت ما نحن بصدد الحديث عنه نضرب مثلاً هو أننا نجد عندنا في التشريعات العمالية التي وضع تنظيراتها الفقه الإسلامي أن شخصاً لو أراد أن يستأجر نفسه لشخص آخر للقيام بعمل ما عنده إزاء أجر يتفقان عليه يدفعه إليه عند انتهاء ذلك العمل بانتهاء الوقت المضروب بينهما، والذي قاما بتحديده، وجاء الأجير مع عدته، وكامل استعداده للقيام بما اتفقا عليه من عمل، لكن حدث أن المؤجّر ـ أو صاحب العمل ـ تأخر عن المجيء إليه لعلة؛ ما مشروعة؛ أو غير مشروعة، أي أنه شغل عنه وتركه ينتظره مضيّعاً وقته في ذلك الانتظار، واستمر هذا التأخّر منه حتى نهاية العمل، أو لفترة معينة، فإن الإسلام يفرض على صاحب العمل حينئذٍ أحد أمرين:

الأول: أن يعطي الأجير أجره كاملاً، وهذا في موردين:

أولاً: فيما إذا تأخّر صاحب العمل عن الأجير حتى انتهاء فترة الوقت المخصّص، والمتفق عليه بينهما، وكان الأجير قد بقي كلّ ذلك الوقت في انتظاره.

ثانياً: فيما لو أخذه ليشتغل باقي الوقت عنده حتى وإن كان المتبقّي منه ساعة أو ساعتين فقط.

الثاني: أن يعطيه اُجرة ما يقابل الفترة التي تخلّف فيه عنها إذا ما استغنى عن خدماته حينئذٍ.

إذن فالإسلام يفرض هنا إعطاء الأجير اُجرته وفق التفصيل الآنف؛ لأن التشريعات الإسلامية المختصّة بالعمل، وقانون العمل الإسلامي المنوط به معالجة مثل هذه المسائل يعتبران أن الوقت مال، فإذا ما أضاعه إنسان على إنسان كفل له مالية ذلك الوقت، وأعطاه إياها. وهذا يقودنا إلى نتيجة هي أن الوقت لا يعدّ شيئاً عابراً ليس ذا قيمة، أو حركة من حركات الزمن من وجهة نظر المشرع الإسلامي الأقدس، بل إنه ينظر إليه على أنه وحدة اقتصادية ذات جنبة مالية، كما أنه عامل هامّ له ثمنه وقيمته وأجره الذي ينبغي ألّا يفرّط فيه.

ومن هنا فإننا نقول: إن الوقت الذي قضاه المشركون في مكّة المكرّمة قبل دخولهم في الإسلام لا يمكن أن يعتبر وقتاً البتّة؛ لأنه لم يكن ذا قيمة تعدّ وتذكر؛ إذ إن هؤلاء لم يكن عندهم حينها من الاُمور الإيجابية أو الصالحة ما يشغلون بها أنفسهم، بل إنهم كانوا يقضون أوقاتهم في معصية الله تبارك وتعالى، أو لا أقلّ من أنهم يقضونها فيما لا طاعة لله تبارك وتعالى به. لكن الوضع اختلف بعد أن انتقل الإنسان المكّي إلى المدينة المنورة حيث الإسلام، وحيث قيام الدولة الإسلامية؛ ذلك أنه وجد أمامه الكثير الكثير مما يمكن أن يشغل نفسه فيه مما هو داخل في إطار العوامل الفعّالة ذات التأثير الإيجابي في حياة الإنسان المسلم كفرد، وفي حياة المجتمع الإسلامي، وفي حياة الدولة الإسلامية نفسها، فقد كان وقتاً مملوءاً بالقيم، وعامراً بالعطاء والإنجازات، بل إن الإنسان المسلم لم يكن ليجد له متّسعاً من الوقت آنذاك يستطيع أن يعتبره وقتاً لا يقع فيه عمل ما إيجابي، أو شيء من هذه الأشياء المذكورة؛ فمن تعلّم أحكام الدين وفقهه، إلى العمل الذي يكفل له رزقه بكرامته، إلى الاستعداد والتهيّؤ للجهاد، وإلى ما سواه من اُمور غيرها تصبّ في هذا المصبّ الإيجابي.

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة