الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 04

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

علماء الاجتماع والتغيير الحضاري

وهذا الذي أشرنا إليه هو أمر واقع، وحق لا يمكن أن يتجاهله أحد، ولا أن يغضّ البصر عنه؛ لأنه حقيقة واقعة يعيشها كلّ إنسان في جميع أبعاده الحياتية، بل هي طبيعة تنبسط على إنسان المجتمعات البشرية كلّها في أي نقطة من نقاط الكرة الأرضية من غير أن تكون مختصّة بمجتمع دون مجتمع، أو جماعة دون جماعة.

وأكبر دليل على هذا ما نراه ممّا يعيشه البعض اليوم من واقع مزرٍ؛ ذلك أننا على الرغم من توفّر مختلف وسائل الإعلام المتمثّلة بأجهزة التلفزة والراديوهات، وغيرها من وسائل الإعلام الاُخرى المقروءة، كالكتب والصحف والمجلات، أضف إلى ذلك البيئة المتمثّلة بالشارع، أو المدرسة، وما تنطوي عليه من وسائل دعوة وتعليم، وما إلى ذلك ممّا يرافقها من مؤثّرات اُخرى يمكن أن تتبنّاها أي مؤسّسة لتكون نافذتها الإعلامية التي تطلّ منها على العالم الخارجي، أو لا أقل من أن تكون عوامل مساعدة ووسائل إيضاحية تساهم في توجيه هذا الأمر، وعلى الرغم من استعمالنا كل ذلك من أجل زرع عقائد صحيحة في نفوس الآخرين، فإننا لا نحصد إلّا الفشل، ولا نحصل إلّا على ما هو خلاف ذلك، بعد أن نجد أن كل هذه الوسائل المتاحة غير قادرة على أن تنتزع من أذهان البعض من بني الإنسانية الكثير من الأمور البالية التي لازالت تسيطر حتى الآن على عقول جماعات يعيشون ضمن عقائد لا يمكن المساس بها أو تغييرها أو إصلاحها مهما حاول الإنسان الداعي ـ أو من يحاول التغيير ـ ذلك.

وهذا الأمر ـ أعني التغيير الحضاري داخل المجتمع البشري ـ حينما يبحثه علماء الاجتماع، فإنهم يذكرون في المقام أن تغيير الأمور المادية سهل جداً بحيث إنه لا يصعب، ولا يجد ذلك التغيير على مستوى المادة أي صعوبة أو ممانعة أو عائق يحول دونه ودون تحقيقه، بل إن هذا التغيير ربما يقع ضمن مشتهيات النفس البشرية ورغباتها كما لو غيرنا البيوت مثلاً من الطابع القديم إلى طابعها العصري الحديث، أو غيرنا هياكل المدارس والمستشفيات إلى ما يتلاءم مع المرحلة الآنية التي يعيشها الإنسان، والتي تتناغم مع التطور الذي يمكن لهذا التغيير أن يستوعبه، ويحقق للإنسان الفائدة من إيجاده.

وفي المقابل فإننا نجد أن هؤلاء العلماء المختصّين يذكرون أن الاُمور المعنوية ـ ومنها العقائد والتقاليد ـ لهي اُمور يصعب اقتلاعها من نفوس أصحابها، وبناء على هذا فليس من السهل بمكان انتزاع عقيدة أي إنسان منه سيما إذا ما كانت تلك العقائد موروثة، وقد بسطت تأثيرها الكبير عليه. ومن هذا المنطلق فإننا حينما نستشفّ الزمن، ونتطلع من فوق جدره؛ فسنرى صعوبة المهمة السماوية الإلهية التي كان يمارسها رسول الله| في وظيفته تلك المستندة إلى تطهير ذلك المجتمع الإنساني الفاسد من عقائده الفاسدة القائمة على الشرك، ثم زرع عقائد حقّة مكانها؛ وهو ما يعني بناء مجتمع جديد بأخلاقيات جديدة، وعقائد مستحدثة تختلف اختلافاً كلياً عن الأخلاقيات والعقائد التي كان عليها قبل مرحلة الدعوة.

بين مكة والمدينة

ومن خلال هذا التقرير والتقريب فإننا يمكن أن نتلمّس طريقنا إلى حقيقة هامة ذكرناها آنفاً وهي أن البعد الزمني الذي عاشه نبينا الأكرم محمد| في المدينة المنورة هو غير ذلك البعد الزمني الذي كان يعيشه في مكة المكرّمة؛ لأن هذا الزمن الذي انطوى على الدعوة الجديدة في المدينة المحمدية الطاهرة، والذي بسط عليها رداءه الضافي، بحيث إنه ساهم في نشر هذه الدعوة، وفي بناء الدولة الجديدة، هو حتماً يختلف عن ذاك الزمن الذي كان يُضيَّق فيه الخناق على الدعوة والداعي والمدعو، فعمل ما عمل مستثمراً كلّ لحظة من وقته من أجل الوقوف بوجه هذه الدعوة الجديدة، ومن أجل القضاء عليها ونسفها من المجتمع الإنساني آنذاك. فكان أن عذّب من عذّب من الرواد الأوائل من المسلمين، وحارب من حارب منهم، وقاوم من قاوم باستعمال شتى فنون الإرهاب والتعذيب المتاحة والمعروفة آنذاك من أجل تحجيم دور النبي الأكرم|، وتحديد رقعة الدعوة والإسلام والمسلمين ببيت النبي الأكرم| دون السماح لها أن تمتد أفقياً على رقعة أوسع، وبالتالي يسهل القضاء على هذا الدين كما صورته لهم بنات أفكارهم الدنفة، وترَّهات خيالاتهم وأوهامهم المريضة.

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة