الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 02

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

البحث الثالث: أهداف الهجرة

نودّ أن نشير هنا إلى أن آية المقام الكريمة إذ تقول: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾، فإنها كأنما تريد أن تبين لنا أن الهجرة عادة تكون لها أغراض وغايات وأهداف تختلف ـ كما أسلفنا ـ باختلاف نوايا الأناس المهاجرين ورغباتهم وإراداتهم. إن هذا يعني أن الإنسان من الممكن أن يهاجر إلى غرض معين يريد به أمراً قد انطوت عليه نفسه؛ صرح به، أو لم يصرح؛ كأن يهاجر أحدهم مثلاً من أجل أن يتزوج من فتاة من بلاد أخرى، أو أنه يهاجر من أجل طلب العلم، وثالث يهاجر من أجل طلب المعيشة، ورابع يهاجر فراراً من جور حاكم، أو ظلم سلطان غاشم يحاول أن يسلبه حريته وكرامته، فيهاجر طلباً للحرية، ونشداناً للفضاء الرحب الواسع، وللانطلاق في عالم الإنسانية الفسيح.

أما هؤلاء الذين تحدِّثنا الآية عنهم، والتي هي بصدد بيان غاية هجرتهم، فإنهم إنما هاجروا في الله تبارك وتعالى وله ومن أجله، وهذا يعني أن الله تعالى يزكّيهم تزكية ليس بعدها تزكية؛ حيث إنهم قد هاجروا من أجل هدف ديني ورسالي سيمر علينا بيانه ومناقشته وتوضيحه من خلال المباحث الشريفة التالية إن شاء الله تعالى.

وهكذا فإننا نجد أن هذه الآية الكريمة التي افتتحنا بها موضوعنا هذا إنما هي من أجل بيان أن هناك أهدافاً عظيمة، وغايات كبيرة ونبيلة يمكن أن يقصدها الإنسان، وأن ينحوها وهو ينتقل من مكان لآخر إذا ما أراد أن يترفع بنفسه عن شهوات النفس ورغائبها، وعن طلب حطام الدنيا. وهذا الهدف إنما هو هدف عظيم يستمدّ عظمته من عظمة من يكون العمل لأجله، وهو الله تبارك وتعالى، أو الإسلام، أو غير هذا من الأهداف النبيلة التي تصب في مشروع الرقيّ بالإنسانية، والطلوع بها إلى فضاءات واسعة رحبة من العلوم والمعارف والحريات والحفاظ على الكرامات، والأهم من ذلك كله الحفاظ على الدين والمعتقدات التي يكون منبعها السماء، وغايتها صلاح الأرض ومن عليها.

المبحث الثاني: في جزاء المهاجر في سبيل الله

ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، وهو مقطع ينطوي على مفاهيم متعدّدة، وجملة من المسائل الحيوية الهامة التي تعتبر ذات تعلّق كبير بحركة الإسلام الحنيف، والعقيدة الإسلامية الحقّة، وكذا بمسيرة رائدها القائد الأعظم، والرسول الأكرم محمد|، والروّاد الأوائل من المسلمين الذين نحوا هذا المنحى. وهو ما سوف نتناول جملة منه في هذا المبحث الشريف. إذن هنا جملة أبحاث هامّة لابدّ من أن نتوقّف عندها ونتناولها، وهي:

البحث الأول: في إجابة داعي الله تبارك وتعالى

إن هؤلاء المشار إليهم قد أعرضوا عن وطنهم وبلادهم، بل مهوى أنفسهم وأفئدتهم، ومحطّ آمالهم إلى وطن آخر غريب عنهم بأرضه ومائه، وأهله وهوائه، وما إلى ذلك. وهذا وفق التصور المبتني على مقارعة مشتهيات نفس الإنسان، وعلى ترجيحه لشيء على آخر على غير وفق مشتهيات هذه النفس أو رغباتها وغرائزها، وليس مبتنياً على أمر خارجي، وهو الذي ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار في مثل مسألة المقام؛ لأنه اختيار الله تبارك وتعالى؛ حيث إنه قد اختار لهم طيبة أو يثرب لينتقلوا إليها عن مكة المكرمة.

البحث الثاني: مزايا مكة والمدينة (أعلى الله شرفهما)

إن من المعلوم أن مكة المكرمة ليست فيها تلك المزايا أو الخصائص الإيجابية الموجودة في المدينة المنورة، وهذا ما تدلّنا عليه آية المقام الشريفة في قوله تعالى: ﴿حَسَنَةً﴾ حيث يذهب المفسرون إلى أن المراد بالحسنة هنا: أرض طيبة التي لابد من أن تعتبر كذلك ـ أي حسنة ـ بما تمتلكه من خصائص هامّة، وما تنطوي عليه من مزايا شريفة.

وهذا يتجلّى لكلّ من يرد إلى المدينة المنوّرة؛ وييمم وجهتها خصوصاً أولئك الذين يتوفّرون على مسبقات ذهنية حول تاريخ هذه البلدة، وتاريخ الحركة الإسلامية فيها، وقصة انتشار الإسلام منها؛ حيث اتّخذها الرسول الأكرم| نقطة انطلاق له، وما أعقب ذلك من آثار إيجابية بنّاءة وضخمة وجبّارة ترتبت على هذا الاختيار الإلهي الذي كان بأمر السماء وتوجيهها.

إن مثل هذا الشخص الذي يتوفّر على هذه المسبقات الذهنية لابدّ أن تكون هذه المعاني الإيجابية مطبوعة في ذهنه وهو يدخل هذه المدينة المقدّسة؛ حيث يتوارد على ذهنه حينها الكثير الكثير من الخواطر والذكريات، وكل ما له صلة بقيام الدولة الإسلامية، وبنائها وإنشائها، وسيرة نبي الإسلام| وآله الطيبين^، وأصحابه المنتجبين الذين مدحهم القرآن الكريم. وهذا ما يمكن تقريبه إلى الآخرين بقول الشاعر:

طيبة يا شذا البساتين طيباً *** وهديل المرجع الاُغرودِ
يا رؤى جبرئيل والنور والأنـ *** ـغام في نبرة الكتاب المجيدِ
يا عبير الفتوح لفّع بالأمـ *** ـجاد من وثبة الكماة الصيدِ
يا عطاءَ القرآنِ يصنع دنيا الـ *** ـحبّ في اُمّة من الجلمودِ
يا سِمات إلى محيّا أبي الزهـ *** ـراء عاشت على الزمان المديدِ

ولو أننا نظرنا بعين الفاحص الباحث إلى هذه الأبيات لوجدنا أن ما انطوت عليه من معانٍ نص عليها هذا الأديب إنما هي حالة واقعية تختزل لنا جملة إيحاءات قدسية، وشوراد إلهية تتوارد إلى ذهن كل إنسان مسلم، فتمثل عنده منظومة متكاملة من إحداثيات عوامل التغيير التي خرج بها رسول الامة وسفير السماء نبيّنا الأكرم| على البشرية ليستنقذها من مخالب الجهل، وبراثن الظلام وغياهبه. فهو أبداً يعترف لهذه البقعة المقدسة المباركة بفضلها، ودورها الكبير في انتشار الدين الإسلامي الحنيف على نطاق واسع، ومساحة عريضة من المعمورة. إن هذه الشواهد الإلهية والشوارد القدسية التي تطالع هذا الإنسان الداخل إلى تلك المدينة المطيبة المطهرة المنورة سوف يجد أن هنالك الكثير مما يمكن أن يطالعه وهو ينقل الخطا على رمالها؛ حيث إنه سوف تطالعه حينها صور تمتزج من خلالها خطاه بآثار خطا نبينا الأكرم| وآله وصحبه عندما كانوا يمرون في هذه المنطقة جيئة وذهابا، وهم يسعون إلى أن يحرروا الأرض جميعها من درن مشركي أهلها، ومما فيها من ظلم وطغيان وإرهاق وتعسف، ومن سلب حريات وما إليه.

هذه هي حقيقة صورة المدينة المنوّرة المشرقة التي ما زالت وما فتئت يلوح في سمائها هيكل الإسلام، ويتبيّن الرائي من خلالها ملامح جبرائيل والملائكة^، ويجلّلها نور المصلح العظيم النبي محمد|، وأهل بيته الذين هم بحق حواريوه|، وأوائل صحابته الخلّص الكرام.

ولعلّ هذا هو السبب الذي من أجله حاول الاُمويّون محو هذه المعالم والملامح عن مدينته|، وتشويه صورتها القدسيّة في عيون الناس، وهي التي كانت محطّ زغب جبرائيل×، والتي تردّد جدرانها أصداء صوت بلال وهو يرفع كلمة التوحيد، والتي ضمّت صوراً قدسية يكسوها البهاء والجلال من أسارير النبي الأكرم محمد| وآله الطاهرين^، ثم صبغها بصبغتهم الاُموية الظلامية الجاهليّة، وتحويلها بالتالي من بلد له كلّ تلك القدسية، والذي كان يعدّ بؤرة مضيئة انطلق منها شعاع الإسلام نحو رحاب العالم كلّه إلى بلد يتخلّص للّهو، ويتمحّض للغناء والخمر والرذيلة. وهو ما نجده واضحاً في قول مالك الفزاري:

لو كنت أحمل خمراً حين زرتكُمُ *** لم ينكرِ الكلبُ أني صاحبُ الدارِ
لكن أتيت وريحُ المسكِ يقدمني *** والعنبرُ الوردُ مشبوباً على النارِ
فأنكر الكلبُ ريحي حين خالطني *** وكان يألفُ ريح الزقّ والقارِ([1])

نعم إن المدينة المنوّرة هي عنوان الإسلام الصحيح، وهي جوهرة ليالي القدر المباركة، وهي النور المحمدي الأصيل، وهي رؤى جبرائيل تتجلّى على وجوه المظلومين والمقهورين، وهي مهد دستورنا القرآن الكريم. وعليه فهذا الإنسان سوف تطالعه كل تلك الرؤى وهو يسير في رحلة تحرير الإنسانية من عبوديتها.

إذن فهذا الإنسان سوف تتلاحق في ذهنه كل تلك الصور، وسوف تتداعى أمام مخيلته كل تلك الآثار وهي تلج عالم إيمانه الرحب الفسيح ليرى من خلالها أن هذه المدينة هي أهل لأن تكون موطناً جديداً للمسلمين الأوائل الذين نشروا الإسلام منها وعبرها؛ فبهذا تكون أولى من مكة المكرمة التي صمدت على كفرها وشركها بوجه الإسلام، ووقفت ضده تريد محقه ومحوه، والقضاء عليه.

فإذا ما طاف المرء حولها، وسلك سبلها وشوارعها، تناهى إلى سمعه صهيل الخيول، وهمهمتها تناهياً نفسياً وهي تسرج وتلجم استعداداً للنفر والجهاد في سبيل الله تعالى، ولإحقاق الحق، وإرساء كلمته وعدله ودولته بين الناس.

من هذا المنطلق تتجلى لنا حكمة الله تبارك وتعالى في اختيار هذه البلدة بديلاً عن مكة المكرمة؛ لما تنطوي عليه من مؤهلات، ومزايا، ومستويات عالية تندرج تحت نطاق الثقة بالنفس، والاستعداد الكامل للدفاع عن كلمة الله تعالى ودينه، والذبّ عن رسوله|، ونشر هذا الدين الحنيف، والشرع السماوي الشريف بين الناس.

يتبع…

______________

([1]) شرح نهج البلاغة 19: 350.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة