الهجرة؛ ملامح نصر، ومشروع دولة ـ 01

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾([1]).

مباحث الآية الكريمة

يروي بعض المفسّرين والمحدّثين أن هذه الآية الكريمة قد نزلت في شأن نبينا الأكرم‘، وفي جماعة من خلّص أصحابه هم الذين اتّبعوه ساعة العسرة، وأطاعوا أمره ـ وهو بطبيعة الحال أمر الله تبارك وتعالى ـ بالهجرة إلى المدينة، مخلفين بذلك وراءهم أموالهم وبيوتهم وممتلكاتهم، فضلاً عن ذويهم ومتعلّقيهم، وكل ما يمتّ لهم بصلة، مضحّين به جميعه في سبيل الله سبحانه وتعالى. ومن هنا كان موضوع الهجرة موضوعاً حسّاساً جدّاً، وذا أثر فاعل وكبير في مسيرة الدعوة المحمدية الأصيلة، وعلى طريق الحراك الإسلامي المتسارع والحثيث، والقابل الذي ارتأت حكمة السماء أن ينتقل من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة بما ينطوي عليه من آليات تفاعلية تقود به إلى موقع النصر والانتشار، وإلى اُفق الدولة.

نعم هكذا كانت هذه الحركة في تاريخها منذ بدئها وحتى تأسيس الدولة الإسلامية المباركة في المدينة المنورة بعد حصول هذه النقلة التي مثلت منعطفاً تاريخياً كبيراً وحاسماً في حياة الإسلام نفسه، والمسلمين على حدّ سواء. ومن هنا فإننا لابد أن نعير هذا الأمر ما يستحقه من بحث ومناقشة؛ بناء على ما له من أهمية كبيرة وواضحة في قيام الدولة الإسلامية، وفي حياة المسلمين منذ أن أنزل الله تبارك وتعالى دينه إلى هذه الأرض وحتى هذه اللحظة. ومن هنا فإننا سوف نتناول هذا الأمر وفق ما تتطلبه موضوعاته التي تترتّب عليه، ويتركب منها، والتي سوف نتناول كل واحد منها في مبحث مستقل إن شاء الله سبحانه.

المبحث الأول: في مفهوم الهجرة وأهدافها وغاياتها

يتضمن هذا المبحث أبحاثاً عدّة نذكر منها:

البحث الأوّل: مفهوم الهجرة

يقع مفهوم الهجرة وفق سياقه الاستعمالي ومدلوله اللغوي على معنيين، هما:

الأول: الحركة المكانية

أي الحركة والانتقال المكانيان، وهذا يعني أن الهجرة وفق هذا السياق والمدلول الاستعماليين تعني ـ من ضمن ما تعنيه ـ: التحرّك والإزاحة المكانيين. وبعبارة اُخرى: هو الانتقال من نقطة ما على الكرة الأرضية، أو على أي جسم كان إلى نقطة اُخرى منفصلة عنها؛ بعيدة أو قريبة منها.

الثاني: الحركة النفسية

أي أن الفعل «هجر» يكون هنا بمعنى «ترك»، ومنه قولهم: هجر فلان داره، أو هجر صديقه، أو هجر أهله، أي أنه ترك كلّ ذلك وراء ظهره، ولم يقبل عليه، ولم يتطلّع إليه. وبمعنى أقرب نقول: يراد بها: هجر الإنسان أخاه الإنسان لا على نحو تركه والابتعاد عنه مكانياً، بل هجره على مستوى النفس، بحيث إنه لا يقبل عليه، ولا يكلمه حتى وإن كان قريباً منه، ملاصقاً له.

فهذا النمط هو لون من ألوان الهجرة التي يقع عليها هذا المفهوم بحيث إنه يسمى هجراً وتركاً، لكنه على مستوى النفس والروح، والتعامل والعشرة كما أسلفنا، وليس على مستوى المكان. فهو هنا ينطبق على أولئك الذين يهجر بعضهم بعضاً فلا يكلمونهم، ولا يخاطبونهم، ولا يتعاملون معهم، ولا يمارسون معهم أي لون من ألوان الممارسة الحياتية المعهودة بين أبناء المجتمع الواحد، أو البقعة الواحدة حتى وإن كانوا يسكنون في بيت واحد، أو في محيط بشري واحد كالمدرسة مثلاً، أو أي مؤسسة اُخرى من المؤسسات البشرية، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً([2]).

فالقرآن الكريم هنا يخاطب النبي الأكرم‘، آمرا إياه بأن يعرض عن هؤلاء المقصودين بهذا الخطاب القرآني، وأن يكون إعراضه عنهم إعراضاً مؤدّباً لا ينطوي على تجريح لهم، ولا على إلحاق أي أذى بهم، أو ما إلى ذلك مما يدخل في مضمار تجريح الآخرين؛ كي يفسح المجال لهم لمراجعة أنفسهم، وترك خطّ لهم للرجعة يلجون بابه إن أرادوا أن يفيئوا إلى أمر الله سبحانه، ويدخلوا الإسلام الحنيف.

البحث الثاني: في المراد من الهجرة في آية المقام

وبناء على ما أسلفنا من معانٍ تصحّ إزاء هذا اللفظ فإن لنا أن نتساءل عن المعنى الذي تريده الآية الكريمة منها، وعن أيها الذي يحقّق الهدف من هذا الخطاب. إن أي قارئ يملك بعض أزمّة اللغة حينما يتأمل منذ الوهلة الأولى هذه النص القرآني الكريم فإنه سوف يستشف أنه يتناول المعنيين الثاني والثالث، أي أنه يعني أن هؤلاء الذين هاجروا في الله تبارك وتعالى قد حقّقوا المعنى الثالث وهو الهجرة النفسية؛ إذ إنهم ابتعدوا عن أولئك الذين أبوا أن يمتثلوا لأوامر السماء، وأن يمثّلوا إرادتها ورغبتها في الدخول في هذا الدين، والابتعاد عن بؤرة محاولات المكيين من تضييق دائرة مساحة الحرية على روّاد المسلمين، والأخذ بخناقهم؛ حتى يمنعوهم عن دينهم، ويردّوهم إلى شركهم. كما أنه قرّر أنهم حقّقوا المعنى الثاني بأن انتقلوا نقلة مكانية من مدينة إلى اُخرى، أي من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة.

يتبع…

________________

([1]) النحل: 41.

([2]) المزّمّل: 10.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة