الاختيار الإلهي ـ 09

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مكة المكرمة أشرف البقاع

إن من المعلوم أن أفضل الأمكنة والبقاع على هذه الأرض هي البلد الأمين مكة المكرمة، فهي أفضل بقعة اختارها الله عز وجل ليجعل منها مكاناً لبيت عبادته الذي يقصده الناس للحج والعبادة؛ فكانت بهذا الاعتبار ومن هذا المنطلق سيدة البقاع فليس هنالك من بقعة أشرف منها. وقد وردت روايات كثيرة في فضل هذه البقعة الطاهرة المشرفة، سوف نتناولها إن شاء الله سبحانه على مساحة المحاور الثلاثة التالية بشيء من الاختصار وفق ما تقتضيه طبيعة المقام:

المحور الأول: روايات فضلها

يروي المؤرّخون والمحدّثون في فضل هذه البقعة الطاهرة المقدّسة عدة روايات منها:

الاُولى: أنهم يذكرون أن النبي الأكرم| حينما أراد أن يخرج من مكة ذهب إلى الحجر الأسود واستلمه، ووقف في قلب البيت الحرام وأدار وجهه إلى الكعبة وقال: «الله يعلم أنّني اُحبّك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً»([1]).

ففراق الوطن صعب جدّاً، وفي ذلك يقول الشاعر:

وكنّا ألفناها ولم تك مألفاً *** وقد يُؤلف الشيء الذي ليس بالحسنْ
كما تؤلف الأرض التي لم يطب بها
*** هواء ولا ماء ولكنّها وطنْ([2])

الثانية: وفي فضل مكّة المكرّمة ما ورد عن الإمام باقر علم الأنبياء والمرسلين× من قوله: «الساجد بمكة كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»([3]).

وقوله×: «من جاور سنة بمكّة، غفر الله له ذنبه ولأهل بيته ولكل من استغفر له ولعشيرته ولجيرانه ذنوب تسع سنين وقد مضت وعصموا من كل سوء أربعين ومئة سنة»([4]).

 الثالثة: وروي عن الإمام الصادق× أنه كان يقول: «ما من بقعة أحبّ إلى الله تعالى من المسعى؛ لأنه يذلّ فيه كلّ جبار»([5]).

الرابعة: وعن جابر الجعفي عن الإمام أبي عبد الله الصادق× عن آبائه^ قال: «إن الله اختار من الأرض جميعاً مكة، واختار من مكة بكة فأنزل في بكة سرادقاً من نور محفوفاً بالدر والياقوت»([6]).

وقد جاءت أهمية الكعبة المكرمة من كونها أول بيت وضع لعبادة الناس على هذه الأرض، فهي أقدم بيت عرفه الإنسان الموحد الذي يتوجه بعبادته إلى الله تبارك وتعالى كما نص على ذلك القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ([7]).

الدوانيقي يستنجد بالإمام الصادق×

 وقد استشهد الإمام الصادق× بهذه الآية الكريمة أيام المنصور الدوانيقي الذي حضر سنةً الحج، فرأى المسجد يضيق بالمصلين، فعزم على أن يوسعه. وكما نعلم فإنه كانت هنالك بيوت ملاصقة للمسجد، ولا يتم توسيع المسجد إلّا من خلال رفع هذه البيوت أو نقضها، فأرسل المنصور خلف أصحابها وعرض عليهم بيعها وأن ينقدهم ثمنها؛ حتى يوسع المسجد بذلك، فرفضوا معللين رفضهم بأنهم معتزون ببيوتهم الملاصقة للبيت الحرام، وأنه موقع لا يمكن أن يجد مثله. ونحن نعرف أن من شأن المنصور أنه إذا ما أراد شيئاً، فإنه لا يعجز عنه ـ إلّا أن تشاء السماء إعاقته عن ذلك ـ باستخدام القوة أو الحيلة والمكر والدهاء، لكنه عرف أن القوة والمكر والدهاء في مثل هذه المواطن لا يمكن أن تفلح أو أن تنجح؛ لأن أخذ هذه البيوت بهذه الصورة، وعن طريق القهر والغلبة يعتبر تصرّفاً غير شرعي، وبالتالي فإن الصلاة لا تجوز فيها؛ لأنها صلاة باطلة؛ كونها صلاة في ملك مغصوب.

عجوز تسفّه أميراً

ومن باب الشيء بالشيء يذكر يروى أن أحد الاُمراء أراد توسيع قصره، وكانت التوسعة تطال كوخ عجوز قريب من قصره، فدفع لها فيه عشرين ديناراً فأبت، فزادها عشرين فأبت، فراح يزيد لها حتى أوصلها إلى مئتي دينار وهي تأبى بيع كوخها، فقال لها: سوف أرفع أمرك إلى القاضي، وأحجر عليك، وآخذ كوخك. فقالت: لم؟ قال لأنك سفيهة؛ إذ رفضت بيع كوخ ثمنه عشرون ديناراً بمئتي دينار. فقالت: بل أنت السفيه أيها الأمير. قال: كيف تجرؤين على قول ذلك؟ قالت نعم أجرؤ، وأنت سفيه؛ لأنك تدفع مئتي دينار بما ثمنه عشرون ديناراً.

وعلى أية حال فإن المنصور استشار الإمام الصادق× في هذا الأمر فجاءه الجواب من الإمام الصادق× شافياً مقنعاً مدعّماً بالدليل الذي لا يهتدي إليه إلا دُعُم مدرسة الإسلام وأساطينها، وتلاميذ السماء أهل البيت^، تقول الرواية: إن أبا جعفر بعد أن عرض على جيران البيت الحرام من أهل مكّة المكرّمة شراء بيوتهم منهم؛ ليزيدها في المسجد، أبوا، وبعد أن أرغبهم وامتنعوا، ضاق بذلك الأمر، وغمّه غمّاً شديداً، فقصد الإمام أبا عبد الله×، فقال له: إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك، وقد غمني غمّاً شديداً.

فقال أبو عبد الله×: «أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟». فقال: وبم أحتجّ عليهم؟ فقال×: «بكتاب الله». فقال: في أي موضع؟ فقال×: «قول الله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾؛ قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً قبلهم فله فناؤه».

ولمّا دعاهم أبو جعفر الدوانيقي، واحتجّ عليهم بما نفحه به وارث علوم السماء الإمام الصادق× من حجّة بالغة وأدلّة دامغة لا تقبل الرد؛ لاستنادها إلى كتاب السماء، قالوا له: اصنع ما أحببت إذن. وأقرّوا بذلك له، وفوضوه عندها التصرّف في تلك البيوت، فعوّضهم تعويضاً كافياً عنها، ثم أخذها فأدخلها في المسجد ([8]).

أما بعض الروايات فتذكر أن هذه الحادثة قد حصلت مع ولده الإمام الكاظم× والمهدي؛ ذلك أنه لما بنى المهدي في المسجد الحرام، بقيت دار في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء، فكل قال له: انه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين، لو كتبت إلى موسى بن جعفر×، لأخبرك بوجه الأمر في ذلك. ثم ذكر القصة ([9]).

 وهذا الجواب من الإمام× يدل على عقلية تقنينية، وعلى قدرة عالية في تحليل الظروف والوقائع والمناخات المحيطة بالحادثة حتى يجد لها الحل الصحيح والمناسب المبتني على أحكام الإسلام وقوانين السماء؛ ومن هنا كان آل محمد| شريحة لا نظير لها أبداً؛ لما لهم من إجابات علمية ومنطقية عجيبة ومقنعة في مثل هذه المواقف الصعبة التي لا يمكن أن يصل إليها غيرهم كما رأينا ذلك من خلال متابعة سيرتهم ومناقشاتهم ومحاجّاتهم مع غيرهم([10]).

رجع

وموضع الشاهد من هذا هو أن الإمام× قد استدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ الذي ينص على أنه (أعلى الله تعالى شأنه) أول البيوت، وهو أشرفها؛ كونه بيتاً مباركاً.

يتبع…

_________________

([1]) مستدرك وسائل الشيعة 9: 334 /11030. 346 ـ 347 /11046. مسند أحمد 4: 305.

([2]) شرح نهج البلاغة 20: 91.

([3]) المحاسن 1: 68 / 132. من لا يحضره الفقيه 2: 228، باب فضائل الحج، ح2262. وسائل الشيعة 13: 289، أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها، ب45، ح17770. بحار الأنوار 96: 82 / 34.

([4]) من لا يحضره الفقيه 2: 227، باب فضائل الحج، ح2260. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء 2: 153. الوافي 12: 50 / 11494.

([5]) بحار الأنوار 96: 45 / 34.

([6]) تفسير العياشي 1: 29 / 22.

([7]) آل عمران: 96.

([8]) تفسير العياشي 1: 185 ـ 186 / 89. البرهان في تفسير القرآن 1: 657 ـ 658 / 1814. بحار الأنوار 96: 83 ـ 84 / 41.

([9]) تفسير العياشي 1: 186 / 90.

([10]) ومن أراد أن يطلع على احتجاجاتهم^ البالغة وأدلّتهم الدامغة، فلينظر كتاب الاحتجاج للطبرسي+.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة