الاختيار الإلهي ـ 08

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

تأثّر الإسكندر ذي القرنين بالرجل الزاهد المتنسك

يروي المؤرخون أن الإسكندر ذا القرنين مرّ بمدينة قد ملكها ملوك كثيرون وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الملوك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟ قالوا: رجل يعيش في المقابر. فجاء إليه ـ وكان جيشه كما يقول بعض المؤرّخين ضخماً لجباً بمقاتليه، فضلاً عمّا معه ومن يصحبه من الخيل والصنّاع والطهاة والمهرة والحرفيين وغير ذلك ـ فلم يرع الرجل كل ذلك، بل إنه بقي على ما كان عليه؛ فقد كان غارقاً في صلاته التي هي بمعنى الدعاء، منقطعاً إلى الله تعالى، مستغرقاً في ملكوته، فوقف الإسكندر على رأسه، فوجده رابط الجأش، لم يرتع منه، ولم يخف من جيشه وسلطانه.

فانتظره الإسكندر حتى فرغ من صلاته، وقال له: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ وما الذي تريده ممّا تفعله فيها؟ قال: إنني موكل بنبش هذه القبور؛ لأنني أردت أن أفصل عظام الملوك وغيرهم من العظماء والعباقرة والفلاسفة عن عظام عبيدهم واُميّزها عنها؛ لأرى إن كانت عظامهم فيها تتميّز عن غيرها من عظام الاُناس البسطاء أم لا؛ فقد ماتوا كلّهم، ودفنوا جميعاً هاهنا، فلم أستطع أن اُميّز بين عظام هؤلاء وعظام هؤلاء، ورأيت أنها واحدة لا تختلف، وأنها في ذلك سواء. فقال له: ألم يرعك سلطاني؟ وأما خفت من جنودي؟ قال: لا. قال: لم؟ قال: لأني أقف بين يدي من هو أكثر جنوداً منك، وأشدّ بأساً منك.

فأثار إعجاب الإسكندر الذي بادره بالقول: فهل لك أن تتبعني فاُحيي بك شرف آبائك إن كانت لك همّة؟ قال: إن همتي لعظيمة إن كانت بغيتي عندك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب لا هرم معه، وغنىً لا يتبعه فقر، وسرور لا يغيره مكروه. قال: لست أقدر على هذا، فهذا شيء لا أستطيع أن اُؤمّنه حتى لنفسي. فقال له: فامضِ لشأنك وخلِّني أطلب بغيتي ممن هي عنده؛ فأنا مع من يؤمّن كل ذلك لي، فاللّه عز وجل يستطيع أن يعطيني جميع هذه الأشياء: يعطيني عافية بلا مرض، ويعطيني حياة بلا موت، ويعطيني غنى بلا فقر، فلماذا أترك اللّه وآتي معك؟ فقال له الإسكندر: لقد وعظت فأبلغت. ثم التفت إلى من معه من كبار قومه، وقال لهم: هذا أحكم من رأيت([1]).

 وإذا علمنا أن المؤرخين ينصون أن جيش الإسكندر ذلك ليس بالجيش العادي، وأنه حينما يوصف بأنه جيش ضخم فهو ضخم فعلاً؛ إذ يوصل بعض المؤرخين أعداد هذا الجيش إلى مليوني نسمة مع ما كان يحمله معه من خيل وإبل وغيرها، فضلاً عن المعدات الحربية وما إليه. وكان بحق جيشاً لجباً عرمرماً يهول كل من يراه وكل من يقع بصره عليه. ومن خلال جواب هذا الرجل المتنسك العابد للإسكندر وقوله له: لأني أقف بين يدي من هو أكثر جنوداً منك، وأشدّ بأساً منك، فإننا نعرف أن العبد إذا ما وقف بين يدي سيده ومولاه فإن عليه أن يستشعر ذلك الموقف على حقيقته، وأن يستشعر حال العبودية التي هو عليها.

وعلى أية حال فالصلاة عند سفراء السماء^ لها قيمة عظمى لا يدانيها شيء كما سنلاحظه من خلال الطرح التالي:

أولاً: صلاة نبيّنا الأكرم|

يروي البعض عن عائشة قولها: كان رسول الله| يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه؛ شغلاً باللَّه عن كلّ شيء([2]).

ثانياً: صلاة الإمام أمير المؤمنين علي×

وكان الإمام أمير المؤمنين علي× إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض، ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾([3])»([4]).

ثالثاً: صلاة الإمام السجاد×

يروي المؤرخون أن الإمام السجّاد× صلى ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه، فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال×: «ويحك! أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه». فقال الرجل: هلكنا. فقال×: «كلاّ، إن الله عزّ وجل متمّم ذلك بالنوافل»([5]).

 أي أليس واجباً علي أن أخشع وأخاف وأرتجف وأنا أقف هذا الموقف العظيم بين يدي جبار السماوات والأرض، وبين يدي مالك الناس جميعاً، وهو المتصرف فيهم؟ ومن هنا فإننا نقول: إن على الإنسان إذا ما انغمر في صلاته فإن عليه أن ينغمر في بحر من الشعور بوجود الله تبارك وتعالى، وأن يعرف أنه إنما يمثل بين يدي الله الذي هو جبار السماوات والأرض، وأن ينقطع في وقوفه هذا إليه جل شأنه وحده دون أن يكون هنالك كفل أو نصيب لكل ما هو دنيوي في حياته.

وكان× إذا حضر للوضوء أصفرّ لونه، فيقول أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: «ما تدرون بين يدي من أقوم»([6]).

إن هذه الظاهرة كانت موجودة عند النبي الأكرم| وعند أهل بيته^ دون فرق بين أحد وأحد منهم ولذا فإن المؤرخين حينما يصفون صلاة الإمام السجاد× فإنهم كانوا يذكرون أنه× حينما كان يقوم إلى الصلاة كان يقف كالخشبة الثابتة لا يتحرّك منه إلّا ما تحرّكه الريح، ولا يميل شيء منه إلّا ما تقتضيه منه عبادته وصلاته. يروي أحد غلمانه عن هذه الحالة الإلهية التي عنده من الاستغراق في العبادة والسجود إلى الله تبارك وتعالى، فيقول: كنت أرقبه أوقات صلاته، فأسمعه حينما يسجد ويطيل السجود، وهو يكرّر هذه الكلمة: «إلهي، عظم الذّنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك»([7]).

وطُلب من جاريته أن تصفه لهم، فقالت: أطنب، أو أختصر؟ فقيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، وما فرشت له فراشاً بليل قط، تميله الريح إذا مال([8]).

ومع كل ما عليه الإمام السجاد من صلاة كان يرى أن صلاته لا تعادل شيئاً بالنسبة إلى صلاة أمير المؤمنين× الذي كان يتميز بتلك الجنبة التي نقلناها عن رسول الله|؛ حتى قال الإمام السجاد×: «من يصبر ويقوى على عبادة علي ابن أبي طالب؟»، وذلك حينما أمر× بعض أهله بأن يعطوه ما عنده من صحائف، فأعطوه تلك «الصحف التي فيها بعض عبادة» جده «علي بن أبي طالب». فلما أخذها× نظر فيها نحّاها قائلاً: «من يصبر ويقوى على عبادة علي ابن أبي طالب؟». ثم لم يمت× حتى عمل بعمل الإمام أمير المؤمنين علي×([9]).

وهذا اللون من الانقطاع إلى الله جل وعلى هو انقطاع ناتج من شعور الإنسان بأنه مخلوق بين يدي خالقه، وأنه عبد بين يدي معبوده وسيّده وإلهه، وهو الله تبارك وتعالى جبار السماوات والأرض الذي أعد النار لمن عصاه([10])، ولم يعبده حق عبادته. إذا فمن أفضل الأعمال التي اختارها الله سبحانه وتعالى الصلاة كما ذكرنا.

الرابع: خيرته من الأمكنة

 وكما أن الله سبحانه وتعالى قد اختار من كل شيء فرداً؛ لخصائصه ومزاياه التي يمتاز بها على سائر المخلوقات، ولعلّة ولحكمة لا نعلمهما ارتأتهما إرادته تعالى، فكذلك كان له جلّ شأنه خيرته من الأمكنة التي يبلغ عدّها أكثر من موطن، لكننا سوف نقتصر على واحد منها؛ لضيق المقام عن عدّها وحصرها، وعن ذكرها كلّها.

يتبع…

_____________________

([1]) انظر: التعازي والمراثي: 65. الجليس الصالح والأنيس الناصح: 450. ربيع الأبرار 1: 433. سراج الملوك: 13. محاضرات الاُدباء: 244. نثر الدرّ: 123. لباب الآداب: 126.

([2]) عدة الداعي: 139. عوالي اللآلي 1: 324. بحار الأنوار 67: 400، 81: 258 / 56. شرح نهج البلاغة (ابن ميثم البحراني) 3: 75 ـ 76. طبقات الشافعية الكبرى 6: 294. فتوح الشام 2: 38.

([3]) ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ الأحزاب: 72.

([4]) عوالي اللآلي 1: 324 / 52. التفسير الأصفى 2: 1005. شرح نهج البلاغة (ابن ميثم البحراني) 3: 75 ـ 76.

([5]) الخصال: 517، باب الثمانية عشر لأمير المؤمنين× ثماني عشرة منقبة، ح4. وفي تهذيب الأحكام 2: 341، ب16، ح1415 عن أبي حمزة الثمالي. ويسأل أحدهم الإمام السجّاد× قائلاً: ما بالك يابن رسول الله؟ فيجيبه: «ويلك، أتدري بين يدي من أقف أنا؟». عوالي اللآلي 1: 324 / 63. الطبقات الكبرى 5: 216. تاريخ مدينة دمشق 41: 378. تهذيب الكمال 20: 390. سير أعلام النبلاء 4: 392. البداية والنهاية 9: 123.

([6]) كشف الغمة في معرفة الأئمة 2: 286. عوالي اللآلي 1: 324 / 63. شرح نهج البلاغة 3: 75 ـ 76. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء 4: 231. تاريخ مدينة دمشق 41: 378. تهذيب الكمال 20: 390. مطالب السؤول في مناقب آل الرسول^: 409. إحياء علوم الدين 13: 53. نهاية الأرب في فنون الأدب 21: 326. ينابيع المودة لذوي القربى 3: 154.

([7]) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء 4: 267. الأنوار البهية: 187 ـ 188.

([8]) الخصال: 518، باب الثمانية عشر لأمير المؤمنين× ثماني عشرة منقبة، ح4. شرح نهج البلاغة 2: 274. وعن محقق الكتاب أنها في كتاب الكامل 538 ـ 539 (طبعة أوروبا) ولم نعثر عليها في الطبعة الحديثة. الملل والنحل 1: 118.

([9]) شرح الأخبار 3: 272. الإرشاد 2: 142. مناقب آل أبي طالب 1: 390.

([10]) في الحديث الشريف عن سيّدنا وإمامنا ومولانا زين العابدين× قوله في حواره مع طاووس: «خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً». الصحيفة السجادية: 177 / الدعاء: 91.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة